قصة قصيرة .. يوميات وحيد

وحيد رجلٌ يختلف حوله عارفوه, ففي حين يراه البعض رجلاً عصامياً مستمسكاً بالقيم النبيلة والمثل الوحيدة ومدافعا شرساً عن النظم الاجتماعية, يراه البعض الأخر خيالياً ومثالياً إلى حدِّ الخرافة, كأنما قذفت به السماء من كوكب بعيد لتلقي به على سطح الأرض.
ذات صباح التقيته, جمعتنا وحدة الطريق ورحنا نتبادل أطراف الحديث في شؤون تلامس واقع الحياة وهموم المواطن والوطن .
رأيت في
وحيد خطيباً بارعاً يجيد سبك العبارات ورصَّ المعاني، ويتقن استخدام الاستعارات والمجازات ليخرجها بقالبٍ دراميٍّ يستبطن الحزن المغلف بالكوميديا اللاذعة, ولا يبتعد عن التشويق والإثارة الجاذبة .
يستذكر وحيد اليومَ الذي قصد فيه إحدى الدوائر الحكومية لإنجاز معاملة عالقة في الأدراج أشهر عدة, كانت الدائرة مكتظّة بالمراجعين, ولا خيار لديه سوى الالتحاق بصفٍّ طويلٍ يكاد يتدلّى من الطابق الخامس, كان الجوّ حارّاً جداً والعرق يتصبّب من الواقفين المتذمرين, وبين الفينة والأخرى تسمع همساً اعتراضياً وتعليقات ساخرة ممزوجة بتعابير البؤس الشعبي المزمن. يتداخل المشهد المألوف فجأةً بلقطة خارجة على النص حين يدخل رجلٌ مختلفٌ متجمّلٌ ببذلة رسمية وربطة عنق حمراء, وشعر مصفّف وعينين تختبئان خلف نظّارة سوداء تتكسّر فوقها النظرات المذهولة من عيون المتعبين في الصفِّ الطويل! .
يقترب صاحب الهيبة وإذ بالباب العالي يفتح سريعا, ويهرع الموظف المتمترس خلف الزجاج المثقوب لإنجاز المطلوب, وسرعان ما يحتجب المتأنّق عن الأعين تخفّفاً من عناء المصعد في مكتب رئيس الدائرة .
تنتهي المعاملة المستعجلة ويتحرّك الصّف مجدّداً بالبطء المعهود, وما إن يقترب دور وحيد حتى يطلق الموظف الضنين بالنظام صفّارة انتهاء الدوام الرسمي تعبّداً بالثانية ظهرا. يغادر صاحبنا الدائرة خائباً ساخطا, ويركب سيارته المتحاملة على أوجاعها متجهاً إلى بيته, يعبر نهاية الشارع ليباغته السعد مرة أخرى, ويفاجئه رتل من السيارات الحبلى برؤوس متسمّرة تستطلع الفرج القريب, يسترجع وحيد ويحاول أن يهضم غيظه بشربة ماءٍ ساخنة تقطعها أصوات أبواق قادمة من بعيد, إلتفت خلفه وإذ بسيارة فخمة تلوح منها أكفٌّ تشير للواقفين بفتح الطريق, ويتناثر رجال الأمن في كل جانب يتوعّدون من لم يفسح للقادم الكبير !..
يتابع وحيد سرد المواقف الساخطة بلسان تعبٍ وقلبٍ موجع, وأصغي إليه بأذن متحسّسة وروح شريكة, تستفزني كلماته فأجذب طرف الحديث لأفرغ ما بدلوي الطافح حنقاً على سياسات التمييز الطبقي الحاكمة في مجتمعنا, وأسترجع ما تعلّمناه على مقاعد الدراسة أن الناس أمام القانون سواء, وكيف سواء ؟؟
الناس أمام القانون يتمايزون بألقابهم, بملابسهم, بربطات العنق والأحذية اللامعة, بسيارتهم الفخمة وقصورهم المشيدة, القانون يضعف أمام الأقوياء ويتصلَب حزماً وخشونةً في وجوه الضعفاء, القانون نصٌ لا يقبل التأويل أو التعطيل, والاجتهاد كفر وضلال, ولكن حين تصطدم مصالح الأكابر بقداسة القانون فالضرورات تبيح المحظورات !..
الضريبة حق للدولة على المواطن موافقون, ولكن هل نحن أمام الضرائب سواء ؟
العدل أساس الملك موافقون, ولكن هل نحن أمام القضاء سواء ؟
حين نتساوى في الحق وفي الواجب ولا تميزنا الألقاب والأرقام نتساوى في المسؤولية ..
حين نحترم إنسانية الإنسان ونؤمن بأن الخلق شركاء ترتفع أعمدة الوطن القوي المعافى !..