قيمة الدعاء ومفهومه في الإسلام


* العلامة الراحل السيد محمد حسين فضل الله
قال الله سبحانه في كتابه الكريم:
(وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (البقرة/ 186).
وفي آية أخرى:
(وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) (غافر/ 60).
مع هاتين الآيتين وغيرهما من الآيات التي عالجت موضوع الدعاء في القرآن الكريم، نشعر بطبيعة الأهمية التي يمثلها الدعاء في علاقة الإنسان بربه، وإرتباطه بقضية الإيمان والعقيدة.
- الرعاية الإلهية:
ففي الآية الأولى: نواجه أسلوب الرفق والرحمة والحنان، الذي يمس شغاف القلب بحلاوة فيحس الإنسان ببراءة الطفولة وصفائها تزحف إلى قلبه في وقفته الخاشعة أمام ربه، فيشعر بالرعاية الإلهية وهي تلامس روحه وتمس ضميره وتدعوه إلى أن يفتح قلبه بكل ما فيه من هموم وآلام، وإلى أن يعرض حياته بكل ما فيها من مشاكل وعقبات، ويرفع صوته بكل ما لديه من غايات وحاجات، ليجد الله قريباً منه، يسمع دعاءه ويعلم نوازعه ويحيط بشؤونه وشجونه فيسكن ويطمئن ويخفف من أعباء ذاته وأثقالها.
- الخط الفاصل:
وفي الآية الثانية: نقف مع أسلوب الحزم الذي يجعل من موضوع ممارسة الإنسان الدعاء أو عدم ممارسته قضية الإعتراف بالعبودية لله جلّ شأنه، أو التمرّد عليها، ويوحي للعبد أنّ ذلك هو الخط الفاصل بين الإيمان والكفر، وبين الجنة والنار.
ففي الدعاء، يجد الإنسان ربه مع مشاعره وحاجاته، بينما لا يواجه الإنسان في حالة التمرد إلا الحرمان من فضله في الدنيا ومواجهة العقوبة في الآخرة.
- أهمية الدعاء:
وربّما نجد فكرة الأهمية القصوى للدعاء في أوضح دلالتها في الآية الكريمة: (قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ...) (الفرقان/ 77)، التي تحدد رعاية الله لعباده بمقدار إرتباطهم به بالدعاء.
وهنا نسأل: ما هو السر في ذلك كلّه؟
وكيف يمكن لطقس من الطقوس الدينية أن يرقى إلى المرتبة التي تتحدد فيها علاقة الإنسان بربه على أساس ممارسته أو عدم ممارسته؟
ولكن القضية – في ما يبدو لنا – ونحن في محاولة الإجابة على هذا السؤال، ليست قضية طقس عبادي مجرد أو تقليد ديني شكلي. بل الدعاء هو التعبير الحي عن شعور الإنسان بحاجته الدائمة إلى الله في جميع أموره، وإعترافه الخاضع بصفة العبودية التي تتمثل في الإحساس بالإرتباط العميق بالله والفناء فيه، بحيث لا يحس معه بوجوده ولا يشعر بكيانه.
ومن البديهي أنّ الإيمان الحي لا يتحقق بدون هذا الشعور وهذا الإحساس، إذ لا معنى للإيمان بالله إلا الإحساس بالقدرة الخالقة التي لا تقف عند حدّ، والقوة المطلقة التي لا تنتهي إلى غاية، في مقابل عجز الإنسان وضعفه الذي لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً إلا بالله.
وعلى ضوء هذا، فإن حاجتنا إلى الدعاء تتمثل في حاجتنا إلى التعبير عن هذا الإيمان، والعمل على إستمراره داخل النفس حياً نابضاً بالحياة، يجدد للإنسان إيمانه ويركز ثقته بالله.
ولهذا ورد في الحديث انّ "الدعاء مخ العبادة" لأنّه التعبير الحي عن معنى العبودية والخضوع والخشوع الذي يتمثل في العبادة، بدونه تصبح العبادة جسداً لا روح فيه.
وبذلك يخرج الدعاء عن أن يكون طقساً تقليدياً يمارسه الإنسان بدون فهم أو وعي، بل بفعل العادة الدائبة.
تلك هي بداية الدعاء في مفهوم الأديان التي التقت كلها في تقديس الدعاء وإعطائه هذه الأهمية عندما التقت في تأكيد الإيمان بالله، وقد نص القرآن الكريم على دعاء نوح وإبراهيم وموسى وأيوب وزكريا وغيرهم في ساعات الحرج والضيق، وفي حالات الإبتهال والإنقطاع، كأسلوب عملي يوحي للناس بقيمة هذه العبادة في علاقة المرء بربه، وبأصالتها في مفهوم الإيمان، حتى في حياة الأنبياء الذين يمثلون القمة الإنسانية في القرب إلى الله..
- قيمة الدعاء في الإسلام:
وانطلق القرآن الكريم بعد ذلك ليؤكد هذه العبادة في جميع حالات الإنسان، حتى لا تكون علاقة الإنسان بالله علاقة منفعة مادية، فنراه في الوقت الذي يحثُّ الإنسان على أن يدعوه خوفاً وطمعاً، يطلب منه في آية أخرى أن يدعوه مخلصاً له الدين، في دعاء الإخلاص والتوحيد الخالص. ويشير في بعض الآيات إلى نماذج من الناس لا يعرفون الدعاء إلا في أوقات الشدة حتى إذا كشف الله عنهم ذلك نسوا الله (وَإِذَا مَسَّ الإنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ...) (الزّمر/ 8).
المصدر: كتاب قضايانا على ضوء الإسلام
لمزيد من التواصل مع موقع عالم المعرفة و التميز أضغط هنا و أنضم لصفحتنا على Facebook