قصة قصيرة .. الخديعة


ما أحمَق الفتاة التي يعميها حبها لرجل ما عن رؤية ماضيه والسيئ من عاداته. لقد جذبتني شخصيته، وأسَرَني كرمه، وحاصرتني عيناه حتى لم أعد أدري كيف جاء إلى بيتنا وماذا قال لأبي وكيف تم إستدعاء المأذون وتسجيل العقد وتمضية أسبوعين على شاطئ البحر، ثمّ طارت بنا الطائرة إلى مدينته. كانت في إنتظاري هناك شقة ذات تأثيث باذخ، لكنه لم يقدّمني لأهله إلا بعد أسبوع من وصولنا. وقد فوجئت بأنهم قليلو الكلام، يتأملونني بصمت ويبتسمون بطيبة وكأنهم سُعداء بهذا الزواج الذي تم من دون حضورهم. ولا أدري لماذا هَجَسَت بأن هناك أمراً غائباً عني، وزادت شكوكي بسبب تأخّر زوجي في العودة إلى شقّتنا، بل ومبيته في الخارج أياماً عديدة. وكان لابدّ لي في النهاية من أن أفهم، يا لغبائي، أنّه يبيت في بيت آخر، مع زوجة أخرى، أنجبت له البنين والبنات.
هل كنت ساذجة إلى هذا الحد؟ أذكر أنني سألته عن سبب تأخره في الزواج، وهو الرجل المقتدر والجذاب، وكان ردّه همسة في أذني: "هل كنت تُريدين أن تسبقك إمرأة إليَّ". وقد خدّرتني تلك الهمْسَة وشلّت عقلي ولم أفق منها إلا وأنا واقفة في شباك شقتنا، اراقب مدخل العمارة وأنتظر عودة زوجي ويطلع عليَّ الصباح وهو غائب. ماذا أفعل وقد عرفت الحقيقة؟ إنّ ردَّ فعلي الأوّل كان البكاء والزعل والتهديد والإصرار على العودة إلى بلدي وأهلي. لكنني، في داخل نفسي، لم أكن مستعدة لحمل لقب "مُطلّقة" وأنا في أوّل صباي. كما أنني كنت أحب هذا الرجل الذي لم أعرف سواه من قبل، ويُسعدني أن أكون ربّة هذه الشقة الأنيقة وأن أتمتع بكل ما كان يُغدقه عليَّ من هدايا وما يصبه في روحي من مشاعر دفاقة.
تراخيتُ وهدأت من دون أن أمنحه عَفوي. وكان أكثر ما صَدَمني إصراره على أنّ الرجل، أي رجل، هو كائن حُرّ ولا يحق للمرأة، أي إمرأة، أن تحاسبه. لكنني سأحاسبه، ولن أترك الزمام يفلت من يدي مادام يحبني ويريدني، وسألاحقه بالهاتف لأعرف مكانه، على الرغم من أنّه يقول إنني أتجسس عليه. أنا لا أتجسس لكنني أتصبَّر. وفي الوقت ذاته أرسم خطة محكمة لترويضه وتلقينه أصول الحياة الزوجية، وما تفرضه من مُصارَحة بين الطرفين.
إنّه، في هذه المرحلة، يحاول التمرّد لكي يحافظ على حرِّيته المطلَقة. لكن الأيام التي بيننا ستُثبت له أنّه أسير هذا الحب الطارئ على حياته، وأنني لا أريد الإنتقام لنفسي فحسب، بل لضرّتي المسكينة التي يَعلَم الله مقدار حرقتها.
* إنّها تتجسّس عليَّ:
نشأتُ في بيت كنتُ فيه أكبر الأبناء، وتولّيت المسؤولية في سن مبكرة بعد رحيل والدي. وكانت أُمّي تعاملني بطاعة ومحبّة وإحترام وتُكرّر، دائماً، أنني "رجل البيت" ولا تسمح لأيٍّ من أعمامي أو أخوالي بأن يرفع صوته في وجهي. كانت تقول إنني ظل أبي المرحوم في العائلة. لذلك، لم أتعود أن يُسائلني أحد، أو أن أخضع لإستجواب حول ما أفعل وما لا أفعل، أو أن أكون مضطراً إلى تقديم حساب بتحركاتي إلى أيٍّ كان. فهل يُعقل، بعد كل هذا العمر، أن تأتي زوجة صغيرة لا تفقَه شيئاً في أمور الدنيا لكي تحاسبني وتريد أن تعرف أين ذهبت، ومع مَن سهرت، وماذا أكلت؟
تزوّجت هذه البنت عندما كنت في زيارة عمل لبلدها. لقد كانت ذات إبتسامة جميلة لا تغيب عن وجهها، وعندما غرزتُ نظراتي في عينيها، واجهتني بالغرزة نفسها، ولم تخجل أو تغض البصر، وكأنّها كانت تسألني، بنظراتها: "ماذا تريد منّي؟". ماذا كنت أريد منها غير أن أجعلها زوجة لي، حلالاً، وحسب الشرع؟ هل كان عليَّ أن أقدّم لها ولأهلها، قبل الزواج، تقريراً مُفصَّلاً عن حياتي السابقة وزواجي الأوّل والأبناء الثلاثة الذين ينتظرونني في البلد؟ إنّ السؤال عن العريس هو مهمة أهل العروس، وليس ذنبي أنهم وافقوا على إعطائي ابنتهم، وأنهينا إجراءات العقد خلال ثلاثة أيام.
منذ اليوم الأوّل لنا في الشقة التي هيأتها لها، فأجأتني زوجتي بأنها تريد أن تعرف لماذا تأخرت في العودة إلى البيت. وجُنّ جنونها عندما غبت عنها يومين من دون سابق إنذار، وكادت تنصب لي محاكمة علنية وتعلق لي مشنقة بسبب ذلك. أمّا حين علمت أنني متزوج من قبل ولي بيت وأسرة، فقد لملمَت أغراضها وأصرّت على العودة إلى بلدها، لكنني منعتها واتّصلت بوالدها لكي ينصحها بالعقل، لا بالعاطفة الهوجاء.
هل كانت تتصور أنني عشت حتى بلغت الأربعين من دون زواج وأنا ابن بيئة بدوية لا تسمح للأعزب بأن يختلس نظرة من إمرأة؟ إنّها مازالت غاضبة ومهتاجة، ولا تتوقف عن وصمي بالرجل المخادع الذي ضحك عليها وغدر بها. هل يكون الزواج غدراً؟ أنا لم أعقد عليها في السر، بل أمام شهود من أهلها، كما أخبرت أبنائي وزوجتي بقراري وأنا واثق بأنّهم لن يعترضوا. إنّ أم البنين لم تعص لي أمراً من قبل. وهي مثل والدتي، تقول لي عندما أستشيرها في أمر ما: "أنت تفصّل وأنا ألبس". لماذا إذن تعترض هذه الشابة الغريرة على قراراتي، وتريد أن أكون خاتماً في إصبعها: ذلك حلم لن يتحقق. وأنا لا أريد طلاقها ولا هي تريد ذلك.. فلماذا العناد؟
لمزيد من التواصل مع موقع عالم المعرفة و التميز أضغط هنا و أنضم لصفحتنا على Facebook