قصة قصيرة .. الغريمة


دخلت أميرة المطعم مع زوجها. تنقلا بين الطاولات حتى وصلا إلى مكان فارغ، طاولة صغيرة مستديرة في آخر القاعة لا تتسع إلا لشخصين. ولم تكن تطلب أكثر من ذلك. جلسا وتهدت بإرتياح، وهي تستند إلى الكرسي. لقد طالت جولتها مع زوجها في الحي التجاري. وقد بدأت في آخرها تشعر بالتعب والرغبة في الجلوس على مقعد مريح.
أخذت تفرك يديها بقوة، على الرغم من أن أجهزة التدفئة كانت تعمل، لكن رعشة من البرد ظلت تلازمها. فقد كان الطقس في الخارج بارداً وممطراً. وكان يمكنها أن ترى من الواجهة البلورية المقابلة رشاش الماء يتقاطر بنعومة من السماء التي تجهم وجهها وتلبدت بسحب رمادية كثيفة.
كان المطعم صغيراً، طاولاته متقاربة. وقد أشعرها بجو من الدفء والحميمية، خاصة أن تجهيزاته فاخرة وإضاءته خافتة هادئة. كما أن أرضيته صقيلة لماعة، كأن يداً لا تغفل لحظة عن تنظيفها.
كان رواد المطعم، على الرغم من صغره، كثيرون، فلا طاولة شاغرة إلا واحدة في أقصى اليمين. كانوا شرائح مختلفة. فهناك مجموعات من السياح، ورجل مع زوجته وابنه الصغير الذي لم يتجاوز السنوات الخمس. وهناك كهل جلس وحيداً يدخن سيجارة ويتفحص القوم بعينين ثاقبتين. كما توجد مجموعات من الشباب يبدو أنهم من طلبة الجامعات أو المعاهد الثانوية.
وقريباً من المدخل، جلس صاحب المطعم يهتم بإستخلاص ثمن ما يقدم من الطعام الشهي إلى رواد محله. جاء النادل وعلى وجهه إبتسامة عريضة، وسلمهما قائمة الطعام من نسختين، ثمّ انصرف ليرى غيرهما من الزبائن، ويترك لهما الوقت الكافي ليختارا ما يريدان. لم يحتاجا إلى وقت طويل ليحددا طلبهما، هي وزوجها يشتركان في الولع بالبيتزا. وأبلغا النادل بطلبهما، فانصرف راسماً البسمة الأنيقة نفسها على وجهه ليعد ما طلبا. قال زوجها:
- أرجو ألا يتأخر كثيراً في إحضار الطعام، فهناك عمل كثير ينتظرني هذا المساء.
- نظرت إليه حانقة من دون أن تتفوه بكلمة. لشدة ما تغير زوجها، لم يعد كالسابق يتلهف ليخرج معها، ولا يطاوعها في ذلك إلا نادراً، متعللاً بالعمل وكثرة المشاغل. واليوم، لم يقبل أن يصحبها لتشتري بعض الملابس إلا بشق الأنفس. ثمّ ها هو يضيق ذرعاً بجلستهما في هذا المطعم الجميل، كأنّه ليس الرجل نفسه الذي جابت معه مطاعم المدينة وفنادقها أيام الخطوبة وسنة الزواج الأولى. لكن، من قال إن شيئاً يبقى على حاله بعد تسعة أعوام من الزواج؟
- وبينما هي غارقة في أفكارها، دخلت إمرأة إلى المحل. وقد لفتت إنتباهها ليس لجمالها الصارخ، بل لثيابها الفاضحة ووجهها المزين بطبقات كثيفة من الأصباغ. نظرت إلى زوجها فإذا به ينظر إلى تلك المرأة. لكنه سرعان ما حول وجهه عنها في لا مبالاة باحثاً عن النادل الذي طال غيابه. لكنها شعرت بالضيق، وأخذت تضرب بأصابعها على المائدة بعصبية. وراحت ترمق من طرف خفي تلك المرأة الوقحة. لا يبدو أنها تجاوزت الثلاثين، وهي عادية الملامح، لكنها رشيقة متناسقة الجسم. ولاحظت أنها تجلس بإسترخاء على كرسيها، وقد أخذت تلقي على المكان نظرات غير مبالية.
شعرت أميرة بإنزعاج وأخذت تتململ داخل كرسيها وتجتذب بعصبية جانب سترتها، التي أصبحت ضيقة على جسدها منذ زاد وزنها بعد ولادة ابنها الأصغر وجيه. وتساءلت لِمَ لم ترتدِ معطفها الجلدي وسروالها الأسود المخطط اللذين يجعلانها تبدو أصغر سناً.
أقبل النادل نحو المرأة وحياها بلطف كبير، مرحباً بها بحرارة، ما جعل أميرة تعتقد أنّها كثيرة التردد على هذا المطعم. وسرعان ما انصرف بعد أن تلقى طلبها. ولم يظهر عليها الملل وهي تنتظر عودة النادل. وأخذت تتسلى بالنظر إلى ما حولها.
أدارت أميرة وجهها تبحث عن النادل الذي طال غيابه، وعندما عاودت النظر أمامها، فوجئت بتلك المرأة تنظر ناحيتها. وخيل إليها للحظة أنها تنظر إليها، لكنها تبينت أنها كانت تصوب بصرها إلى زوجها وتحدق إليه تحديقاً.
- يا لها من إمرأة وقحة. ماذا تريد من زوجي.
- هكذا أخذت تحدث نفسها وهي تغلي كالمرجل، وظنت أن تلك المرأة ستكف عن النظر إليه بعد وقت قصير، لتحوّل وجهها إلى وجهة أخرى. لكنها واصلت التحديق إليه وكأنّه الشخص الوحيد الموجود في المطعم.
- اللعينة، اللعينة. سأثقب عينيها.
نظرت إلى زوجها، وهي تظن أنّه لم يتفطن لأمر تلك الوقحة، فإذا هو أيضاً ينظر إليها. كانت نظرته غريبة كأنّه لا يرى سواها. وراعها ذلك فكادت تصاب بالإغماء. وفجأة، رأته يبتسم. إنّه يبتسم لها... وهي كذلك تبادله الإبتسام. ولا أحد منهما اهتم بوجودها، كأنّها ليست موجودة هنا.. إلى جانب زوجها.. هذا الذي يهملها ويهتم بالتحديق إلى إمرأة أخرى.
همت بالصراخ عالياً في وجهه تسأله عما حل به. لكنها فوجئت بما جعلها تشك في بصرها. لقد وقفت غريمتها من مقعدها، وتوجهت نحو طاولتهما، ثمّ مدت يدها نحو زوجها وقالت مبتسمة:
- "أهلاً نجيب. كيف أنت يا عزيزي؟".
فرد نجيب زوجها والفرحة تطل من عينيه:
- "أنا بخير يا عزيزتي. تفضلي، تفضلي. اجلسي".
فجلست من دون أن تكلف نفسها عناء النظر إلى أميرة، كأنّها لم ترها. وبقيت الأخرى مشدوهة، عاجزة عن الكلام.
وقال زوج أميرة للمرأة:
- "أهكذا أيتها الجاحدة، أسبوع كامل يمر من دون أن أراك أو أسمع صوتك حتى على الهاتف".
فضحكت ضحكة عالية وقالت:
- "ماذا أفعل؟ مشاغل".
- "أي مشاغل هذه التي تشغلك عني؟ أم تراك تغيرت ونسيت ما بيننا؟".
وتمايلت المرأة في كرسيها بدلال مفتعل. وصمتت لحظات وهي ترمق الرجل بنظرات ماكرة. ثمّ قالت:
- "الحقيقة أنني سأتزوج يا نجيب".
- ستتزوجين؟ لا يُعقل هذا".
قال زوج أميرة هذا، وهو ينتفض في مكانه كالملسوع، وأخذ يرمقها بنظرات مذهولة. ولمّا لم تقل شيئاً تعقيباً على كلامه، أخذ يردد مهتاجاً:
- "ولكن من ستتزوجين؟ ولماذا؟ ألم تقولي إنك تحبينني؟ وكيف تتزوجين غيري مادمت تحبينني؟".
فقالت في مكر: "ألست أنت متزوجاً بغيري مع أنك تحبني أنا؟".
فتحت أميرة فمها وهي تهم بالصراخ في وجهها بأعلى صوتها. وودّت لو صفعتها على وجهها صفعة تفقدها وعيها. لكنها عجزت عن الكلام، وعن الإتيان بأي حركة.
وسمعته يقول بصوت مستسلم:
- "ماذا أفعل؟ هي الأقدار حتمت عليَّ ذلك. تعرفين جيِّداً يا عزيزتي أني لم أختر تلك الزوجة. ولو كان الأمر بيدي، بل لو كنت عرفتك قبل أن أعرفها، ما كنت تزوجت غيرك أبداً".
- بدا على المرأة الخيلاء والزهو وهي تستمع لكلامه. وواصلت ترمقه بنظراتها اللعوب. لكنها لم تتفوه بكلمة.
فأخذ يتوسل إليها متذللاً: "قولي إنك لن تتزوجي، إنني لن أحتمل ذلك".
- "كلا كلا، لن أعدك بشيء طالما أنك لم تحقق وعودك".
بم وعد زوجها هذه الوقحة؟ الأمر رهيب، ولا يمكنها أن تحتمل أكثر.
وسمعت صوته يتعالى إليها، وكأنّه يصعد من أغوار بئر عميقة وهو يقول:
- "وعودي لم أنسها، سأحققها كلها. فقط انتظريني قليلاً".
- "لقد نفد صبري. ثمّ إنني لم أعد أثق بما تقوله لي".
فقال الزوج بتأكيد وتوسل:
- "إنني صادق في كل ما قلته لك. سنتزوج حتماً".
يتزوجان؟ لم تصدق أميرة ما سمعته. أينوي الزواج بهذه المرأة؟ وهي؟ ما سيكون مصيرها؟ زواجه بها يعني أنّه ينوي.. ينوي أن يطلقها..
- متى سيكون ذلك؟ حدِّد الموعد فوراً باليوم والشهر والسنة. أم ترى أعجبتك حياتك مع تلك المرأة المملة؟
وسمعت زوجها يقول متنهداً:
- "إنّ حياتي معها سأم لا ينتهي".
فقالت الوقحة في نبرة ساخرة:
- "إنني أرثي لك أشد الرثاء".
الأمر غير محتمل، سأقتلها، سأمزق بأظافري وجهها.. ماذا تظن نفسها؟ أترى نفسها جميلة، وهي تبدو كجرادة تنط فوق الأرض؟
وتنهد زوجها مجروح القلب وقال:
- "ذاك حظي وما أعطاني".
ثمّ أضاف بجدية: "سأنتظر حتى ينهي أبنائي إمتحاناتهم حتى لا يؤثر إنفصالي عن أُمّهم في نتائجهم المدرسية، ثمّ أشرع في إجراءات الطلاق".
في تلك اللحظة، فاضت كأس صبر أميرة. فوقفت من مكانها، وصرخت تقول:
- "لن يكون ذلك أبداً".
فإذا بزوجها يجذبها من يدها ليجلسها من جديد، وهو يقول مغتاظاً:
- "ما الذي أصابك يا أميرة؟ هل جننت؟".
- "دعني، دعني، لا تلمسني".
فأخذ يتوسل إليها بصوت خافت قائلاً:
- "أرجوك، كفى صراخاً. إنّ الجميع ينظرون إلينا".
فنظرت حولها، فإذا الجميع فعلاً يحدقون إليهما. الجميع، حتى تلك المرأة الوقحة اللعينة..
لكنها الآن تجلس إلى طاولتها. كيف غادرت طاولتهما بمثل هذه السرعة؟
وسمعت زوجها يقول لها مهدئاً:
- "اهدئي، ماذا حصل لك؟ لقد شردتِ طويلاً... ومنذ مدة أكلمك فلا تجيبين".
فنظرت إليه مذهولة، وقالت:
- "ولكنك كنت تتكلم مع تلك... تلك المرأة".
فصاح مذعوراً:
- "اي إمرأة؟ ما بك؟ هل جننت؟ أنا لم أغادر مكاني".
فعادت تنظر إليه مذهولة، وإلى المرأة، وسمعته يقول:
- "يبدو أنك متعبة كثيراً. هل تريدين أن نعود إلى المنزل؟".
فقالت مستسلمة:
- "نعم، فلنعد إلى المنزل".
وسرعان ما وقفا متجهين إلى الباب. وفجأة سمعت أميرة قهقهة عالية، التفتت بسرعة. فرأت تلك المرأة الوقحة تضحك عالياً. لكنها لم تكن تنظر إليها، بل إلى النادل الذي أحضر لها طبق البيتزا.
لمزيد من التواصل مع موقع عالم المعرفة و التميز أضغط هنا و أنضم لصفحتنا على Facebook