قاتل التنيّن/ قصة مترجمة

راينر ماريا ريلكه/ ترجمة: حسين الموزاني (مترجم من العراق)
كان هناك بلد جميل خصب غنيّ بالغابات والحقول والشوارع والمدن، وثمّة ملك شيخ من أكبر الملوك سنّا وأشدهم فخراً وكبرياءً، أجلسه الإله على عرش البلد.
لم يكن لهذا الملك ذريّة سوى ابنة وحيدة بالغة الحلم، ذات حسن بارع وفتوّة متفرّدة. كان الملك يرتبط بصلة قرابة مع العروش كلها في البلدان المجاورة، إلا أن ابنته لم تزل صبية منقطعة كما لو أنها بلا أقرباء. بلاشكّ أن حلمها ورقتها وهيبة طلعتها الهادئة الطاهرة كانت السبب البريء لذلك التنين الذي كان حجمه يزداد ضخامة على الدوام، ويتسع كلما تسلل حتى بلغ أخيراً الغابة الواقعة أمام أجمل مدينة في البلد، فحلّ كما الرعب نفسه مجسّدا، إذ إن هناك علاقة سرية بين الجميلة والوحش الرهيب. فكان كل منهما يكمل الآخر في موضع محدد مثلما الحياة الجذلة والموت اليومي الوشيك.
هذا لا يعني أنّ التنين كان يقف موقف العداء من الفتاة الشابة، مثلما لا يصح للمرء الإدعاء بشرف وضمير بأنّ الموت نقيض الحياة. لعل هذا الحيوان الضخم القاذف النيران يقرقص كما الكلب إلى جانب الفتاة الجميلة، وربّما لا يتردد عن تقبيل يديها اللطيفتين، وبخضوع حيواني، إلا بسبب بشاعة لسانه، بيد أنّ المرء – بالطبع – لم يخضع هذا الأمر للتجربة، لاسيّما أنّ التنين كان يقضي، وبلا رحمة، على كل من تسول له نفسه التوغل في محيط جبروته، فبدا كالموت المبين الذي يقبض على الجميع بمن فيهم الأطفال والقطعان، فيظلّ ممسكا بهم.
من المحتمل أنّ الملك لاحظ ذلك بإرتياح بالغ، لأنّ المحنة والخطر المحدق سيجعل الكثير من شبّان مملكته رجالاً حقيقيين. فحمل الشاب من مختلف طبقات الشعب، نبلاءً وتلامذة، رهباناً وخدماً حملة رجل واحد، كما لو أنّهم كانوا يشنون حرباً ضد دولة أجنبية نائية، فذاقوا طعم البطولة طوال ساعة واحدة حامية الوطيس مقطوعة النفس شهدوا فيها الحياة والموت والأمل والخوف والأشياء الأخرى كلها – كما الحلم. وبعد بضعة أسابيع لم يخطر في ذهن أحد أن يحصى هؤلاء الشجعان أو يدوّن أسماءهم، لأنّ الشعب تعوّد في تلك الأيّام العصيبة حتى على الأبطال، فلم يعودوا في نظرهم من الخارقين.
آنذاك صرخ الشعور والفزع وجوع الآلاف من الناس فأصبحوا كالضرورة، أو كالخبز، مثلما تقضي القوانين السارية المفعول حتى في زمن الويلات.
لكن بعدما صار عدد أولئك الذين ضحّوا بأنفسهم إثر المقاومة اليائسة يزداد على الدوام، بحيث إنّ كلّ عائلة تقريباً في البلد فقدت خيرة أبنائها (كان أغلبهم في مقتبل العمر) بات الملك يشعر، وبحقّ، بقلق من أن يفنى أبناء البلد الأبكار كلّهم فيترمّل الكثير من الفتيات الشابّات ويعشن حياة سنوات طويلة خالية من الإنجاب، فمنع حينئذ رعيّته من القتال. لكنّه أبلغ التجّار الأجانب الذين تمكّن منهم الهلع، فهربوا من البلد المنكوب بإيصال رسالة إلى الملوك الواقعين تحت وطأة ظروف مماثلة منذ زمن بعيد: بأن كلّ من يفلح في إنقاذ البلد البائس من الهلاك ستُقدم له ابنة الملك هبة، مهما كان أصله، نبيلاً أو ابن جلّاد وضيع.
اتضح أنّ البلدان القريبة كانت مليئة بالأبطال أيضاً، وأنّ الجائزة النفسية لم تعدم الأثر، بيد أنّ الغرباء لم يكونوا أوفر حظاً من أهل البلد، فهم لم يأتوا إلا لكي يلقوا حتفهم.
في تلك الأيّام طرأ تغيير على ابنة الملك، وإذا كان قلبها حتى ذلك الحين مثقلاً بالحزن والوبال الذي آل إليه البلد، متمنياً هلاك الغول، فإنّها لجأت، بفعل سذاجة شعورها، وكذلك لأنّها أوقفت لمجهول شديد اليأس، إلى التحالف مع التنيّن المطبق عليهم، بل إنّ الأمر وصل إلى حدّ أنها ابتدعت، بتأثير من صدق حلمها وصراحته، أدعية من أجله، وطلبت من النسوة القدّيسات أن يضعن الغول تحت حمايتهنّ. ذات صباح عندما استيقظت خجلة تماماً من هكذا أحلام تناهت إلى سمعها شائعة جعلتها تشعر بالرعب والإضطراب معاً. قيل إن رجلاً – يعلم الله من أي مكان جاء – أقبل للمنازلة، إلا أنّه في الواقع لم يتمكن من الإجهاز على التنيّن، ومع ذلك فقد تحرر من براثن العدوّ المروّع جريحاً ينزف دماً، فأخذ يزحف في الغابة الكثيفة الأشجار، حيث عثر عليه بارداً في درعه الحديدية فاقدا الوعي، فجلب إلى بيت منفرد، بدم ساخن تحت العصابات الحارقة، ورعشات الحمّى تتنازعه. حين تلقّت الفتاة هذا النبأ، تمنّت لو أنّها انطلقت في الشوارع بقميصها الحريريّ الأبيض لتقف عند فراش المحتضر. لكن بعد أن ألبستها الخادمات وصارت تتطلع إلى فستانها الساحر ووجهها الواجم جيئة وذهاباً أمام مرايا القصر الكثيرة، فقدت شجاعتها في القيام بعمل خارق، بل إنها لم تجرؤ حتى على إرسال خادمة كتومة إلى البيت الذي رقد فيه المحموم الغريب لتجلب له المسكنات، ضمادات كتّان رقيقة أو مرهما مخففا للآلام.
بدا أنها وقعت فريسة للإضطراب حتى كادت تصاب بالسقم، وبعدما جنّ الليل جلست عند الشبّاك وحاولت أن تخمّن البيت الذي فارق فيه الغريب الحياة: إذ إن موته بدا لها بديهياً. لعل امرأة ما كانت ستنقذه من الموت، لكن هذه المرأة كانت أشدّ خوفاً من قدرتها على زيارته، فرسخت في ذهنها فكرة أن حياة البطل الجريح كانت رهن يدها، وباتت لا تستطيع الفكاك منها.
في اليوم الثالث الذي أمضته باللوم والعذاب، ألقت بها هذه الفكرة أخيراً في ليلة الربيع الحالكة السواد الممطرة، المرعبة، وهامت على وجهها كما لو أنّها صارت تطوف في قاعة حالكة الظلمة. لم تكن تعلم كيف ستتعرف على الدار التي كانت تبحث عنها. غير أنّها تعرّفت عليها بسهولة عبر نافذة مشرعة، وخلال ضوء يتلألأ وسط الغرفة، ضوء طويل عجيب، ليس من شأنه أن يساعد على القراءة أو النوم. فمرّت ببطء أمام الدار، حائرة، مسكينة، غارقة في نوبة من الحزن للمرّة الأولى في حياتها، ثمّ تابعت سيرها، فسارت بعيداً، بعيدا. حينئذ توقف المطر فانتصبت نجوم ضخمة منفردة بين خطوط الغيوم المتفرقة، وهي بستان ما أنشد طائر مغرّد مطلع مقطع شعريّ لم تستطع إتمامه بنفسها. كان الصوت يرتفع كلّ مرّة متسائلاً من جديد. صوت انطلق من السكون عظيماً مدوياً مثل صوت طائر عملاق استقر عشّه على ذرى تسع أشجار من السنديان.
أخيراً عندما رفعت الأميرة بصرها المبتل بالدمع عن دربها الطويل، لمحت غابة خلفها طيف من تباشر الصباح، وأمام هذا الطيف ارتفع شيء ما أسود، تراءى وكأنّه بدأ يقترب منها. اتضح أنّه كان يعتلي جواداً، فحشرت الأميرة نفسها دون إرادة بين الأدغال البليلة المعتمة. مرق بها على مهل، فكان جواده أسود بفعل العرق الناضج، وكان يرتجف، وبدا الرجل نفسه يرتعد أيضاً، وقد ارتطمت حلقات درعه ببعضها مولدة رنيناً خافتاً، كان حاسر الرأس، بلا خوذة، كانت يداه مجرّدتين، والسيف يرتخي معلقاً في الجانب ثقيلاً ومتعباً، فأمعنت البصر في صفحة وجهه: فبدا الوجه ساخناً، والشعر أشعت متطايراً.
ثمّ تطلعت إليه من الخلف فترةً طويلةً، فأدركت: أنّه قد قتل التنيّن.
ودفعة واحدة انجلى عنها الحزن، فلم تعد مجرّد شيء حائر ضائع في تلك الليلة، بل باتت مقترنة به، بهذا البطل الغريب المرتعد الأوصال، أصبحت ملكاً له. كما لو أنّها شقيقة سيفه، فحثت خطاها إلى المنزل لكي تنتظره. ودخلت مخدعها دون أن يلحظها أحد، ثمّ سارعت إلى إيقاظ الخادمات، طالما كان في الأمر متسع، طالبة منهنّ إحضار أجمل ثيابها. وبينما كانت الخادمات منهمكات في تهذيب فستانها استيقظت المدينة مغمورة بسعادة لامتناهية، وأخذ الناس يتهللون فرحاً، وكادت النواقيس يقرع بعضها بعضاً في أبراجها. والأميرة التي سمعت الصخب أدركت فجأة أنّه سوف لا يأتي، فحاولت أن تتخيله، مأخوذة بامتنان الجموع، بيد أنها لم تتمكن من تخيّل ملامحه، فبحثت بخوف إلى حدّ ما عن صورة البطل الوحيد، المرتعد، مثلما رأته لتحتفظ بها، كما لو كان من المهم بالنسبة لحياتها هو ألا تنسى صورته. وعلى الرغم من علمها بأن أحدا لن يأتي، شعرت بنشوة احتفالية، فلم توقف الخادمات المنهمكات بتزيينها، وجعلتهنّ ينظمن اللؤلؤ والزمرّد في شعرها المبلل مما أدهشهنّ. لقد أصبحت الأميرة جاهزة متأهبة، فرشقت الخادمات بابتسامة ثمّ مرقت شاحبة الوجه بعض الشيء أمام المرايا، تحت حفيف فستانها الأبيض، الذي كانت أذياله ترفل خلفها على مسافة بعيدة. بيد أنّ الملك العجوز كان قد تربّع على العرش في الصالة المهيبة، وقوراً، في غاية الجدّ، محاطاً بحاشية المملكة العتيدة المتألقة، ينتظر قدوم البطل الغريب، المنقذ.
لكنّ الفارس واصل طريقه بعيداً عن المدينة، فتشكّلت حول رأسه قطعة من السناء مليئة بالقبّرات، ولو عنّ لأحد أن يذكره بثمن ما فعله لرجع مبتسماً، إذ إنّه قد نسيه تماماً.
لمزيد من التواصل مع موقع  عالم المعرفة و التميز أضغط هنا و أنضم لصفحتنا على Facebook