قصة قصيرة .. لا أفهم لغتهم


يقولون إنّ الرجل الأسمر يميل إلى المرأة البيضاء.. فكيف إذا كان لوني مثل حبّات القهوة وكان لون سُندس، حبيبتي، مثل لون زهيرات الفل المائلة إلى الوردي؟ هل قلت "حبيبتي"؟ إنها ستبقى كذلك، على الرغم من مرور سبع سنين على زواجنا، ولن أسحب منها هذا اللقب، ولو صار لأحفادنا أحفاد. فكيف لا تفهم حبيبتي منزلتها الخاصة في نفسي، ولماذا لا تريد أن تبقَى ملكة مُتوَّجة، بل تسعَى إلى أن تنزل إلى مرتبة الرعيّة والعَوام؟
حين رأيتها، عرفت أنّ السماء وعدتني بشمس لا تشبه الحُلكة التي أعيش فيها. فأنا ولدت لأسرة اشتهر أبناؤها بالسُّمرة الداكنة. وعلى الرغم من أنّ العديد من أهل مدينتنا كانوا من عرب الصحراء، المشهورين بسَمَار البشرة، فإنّ لوني وألوان عشيرتي كانت تَشي بأصول حبشيّة، أو ربّما من الساحل الغربي لأفريقيا.. من أطراف داهومي وتوجو والبلاد التي لم تطأها قدماي.
جاءت سُندس جرعة ماء زلال بارد في يَبَاس عمري. ولا أدري، على الرغم من الوضع الميسور لعائلتي، وعلى الرغم من مركزي الوظيفي الجيِّد، لا أدري لماذا تصوّرت أن لون البشرة يمكن أن يقف حاجزاً بيننا. كيف ستقبل هذه الحلوى المغموسة في القشدة أن تقترن برجل طالع، من تنكة دبس؟ لكنها قبلت بي ورحب أهلها بطلبي، وتمَّت إجراءات الزواج بأسهل ممّا توقعت. وحين جمعتنا الخلوة الأولى، خشيت أن تخاف عروسي من الفرق الهائل بين بياض ثيابي وسواد جلدي.. لكنها لم تخف بل أبدَت دهشة تقترب من الانجذاب إلى الكائن الداكن الذي كان يحتضنها، فيتوهج بياضها كما تتوهج الماسة في علبة القطيفة السوداء.
لكن الجوهرة النادرة لا يرضيها ما هي فيه من نعيم وكبرياء، بل تريد وتصرُّ على أن تنغمس في عالمي وفي محيط أسرتي. وهو أمر قد يكون مُفرحاً لرجل غيري، لكنّه يسبب لي الوَجَل والكآبة. إنّ حبيبتي شيء وشقيقاتي، مثلاً، شيء آخر. وهناك إختلاف كبير في النشأة وفي أسلوب التعامل مع أمور الحياة.. هذا إذا غضضنا الطرف على الإختلاف الجذري في المظهر وطريقة اللبس والكلام والضحك وتناول الطعام.
تصرُّ سُندس على أن ترافقني كلما ذهبت إلى زيارة والدتي وباقي القبيلة. وأنا لا أطلق هذه الكلمة جزافاً، بل إنّ مَن يدخل البيت الكبير يرى، أوّل ما يرى، تلّاً من الأحذية والنِّعال والقباقيب عند المدخل، من كل الألوان والأحجام. فالسيدة والدتي تجتذب إلى مجلسها كل البنات والكنّات والخالات والجارات وبنات العم والحفيدات.. ولا ترتاح وتَقرُّ لها عين إلا إذا اجتمعن كلهنّ حولها، ودار الحديث بصوت صاخب وكأنهنّ في شجار، على الرغم من أنهنّ في وئام.
كيف ستتصرف سُندس وسط هذه الغابة، هي التي لا تخلع حذاءها في أي بيت وتدوس به على أثمَن سجادة؟ كيف ستجلس متربِّعة على الأرض، تشفط القهوة بصوت مسموع، وتردُّ على الصوت العالي بصوت أعلى؟ لا، لا تفهموني خطأ.. لست أحاول التقليل من شأن أهلي والشعور بالنقص أمام حبيبتي. لكن القضية كلها تكمن في تبايُن البيئتين. بيئتي وبيئة سندس. وأنا أحب زوجتي كما هي، وربّما أحببتها لأنّها مختلفة عمّا أعرف وعمّا ألفتُ من قريبات وبنات أعمام وأخوال. وأنا أعرف أنهنّ لن "يأكلنها نيئة" ولن يسخرن منها أو يتجاسرن عليها.. لأن تربيتهنّ لا تقل عن تربيتها.. لكني لا أريد لها أن تصبح واحدة منهنّ. لا أريد وكفَى!
لماذا يضايقها ذلك؟ أليس من حق الرجل أن يكون مرتاحاً لِمَن تخالط زوجته؟ هل من الضروري أن تذوب حبيبتي في القبيلة؟
يبدو لي زوجي، وكأنّه ينتمي إلى عالَم غير الذي أنتمي إليه، مع أنني أعيش معه حكاية حُب ووئام صَمَدَت على مرِّ السنين. والغريب أنّ الكثيرين، والكثيرات بالأحرَى، راهنوا على أن زواجنا لن يُعمِّر أكثر من أشهر. ولم أفهم منطقهم، لأنني أعرف أنّ الإنسان ينجذب، في العادة، إلى نقيضه، لا إلى شبيهه. وهنا أتوقف لأقول إنّ زوجي ليس نقيضي، بل هو هذا الجانب الآخر من كياني، والظِّل المكمِّل لوجودي، والوَتَد الذي يرفع خيمتي ويسندني ويتفانَى في حُبي.
أين المشكلة، إذن؟ إنها تكمُن في تعلُّقه الشديد بعائلته الكبيرة، التي يبدو أفرادها وكأنّهم قبيلة تتبادل الحديث بإشارات لا أفهمها. وقد ألَيت على نفسي، منذ وافقت على الإرتباط بعمر، أن أكون جزءاً من عالمه، بما في ذلك ماضيه المأهول بالعديد من الأصدقاء والأقارب، ناهيك عن الوالدة والشقيقات والقريبات، اللواتي لا عدَّ لهنّ ولا حصر.
إنّ أُم زوجي وحدها قاموس يَتوه القارئ بين مفرداته. فهذه السيدة المسنّة التي حجَّت أربع مرّات، تبدو وكأنّها السُّلطانَة التي تُحرِّك كل الخيوط من دون أن تتفوّه بكلمة. إنّ الكل يُتابع حركات عينيها ويمتثل لأي رمشة في أجفانها. وهي لا تقدر على التنفس بعمق، إلا إذا كانت مُحاطَة بعشر من بناتها أو حفيداتها، على الأقل. وتزداد أنفاسها يسراً عندما يرتفع العدد إلى عشرين أو حتى ثلاثين.
وعلى الرغم من أنّها المرأة الناطقة/ الصامتة، فإنّ مَن حولها يتحدث بصوت عالٍ وفي وقت واحد. وأنا مازلت لا أفهم، على الرغم من مُضي سبع سنوات على وجودي بينهم، كيف يسمع أحدهم الآخر ويرد عليه، ولا أتوصل إلى فك رموز تبادلاتهم اللغوية، وما تشير إليه نظراتهم أو ما تنم عنه ضحكاتهم الصاخبة. لهذا أبدو بينهم مثل الطرشاء في الزفة، حيث يتطلعون إليَّ بمحبَّة لا تخلو من دهشة، وكأنني إنسانة عجيبة هبطت من الفضاء الخارجي وحطّمت تحت خيمة أُم زوجي.
حاولت كثيراً أن أتعلَّم رموزهم، وأن أكون فرداً من هذه المجموعة المتلاحمة، من القريبات والنسيبات والكنّات وبنات الأعمام. وكدت أنجح في مهمتي، لولا أن زوجي لا يساعدني، بل يحاول إبعادي عن هدفي وعرقلة اندماجي في محيطه السابق.. محيطه الذي لايزال يرتاح إليه ويبدو وسطه سعيداً مثل السمكة في نهر رائق. لماذا لا نكون سمكتين ترقصان معاً في النهر؟ إنّه يقول إنّه اختارني، لأنني مختلفة. وأنا أقول إنّ هناك ما يحاول إخفاءه ويختلق الحجج لكي يُبعدني عن أمر مازلت أجهله، حتى الآن، على الرغم من عِشرَتنا الطويلة المشتركة.
أذهب معه إلى زيارة السيدة والدته، فيطلب لي كرسياً، على الرغم من أنّ الأُخريات يجلسن على الأرض. وعندما أحاول التمرُّد على "العرش" المنفرد، وأبادر إلى التحرُّر من حذائي.. تأمرني عيناه بألا أفعل. أما هو، فإنّه يترك نعله عند الباب ويُهرع ليجد لنفسه مكاناً بين المتراصِّين حول الوالدة، يُشاركهم الهَدِير الصّاخب والإشارات المتلاحقة، والضحكات التي لا أعرف كيف بدأت ولا متى تنتهي.
كأنني غريبة بين أهل زوجي، كأنني أجنبية، على الرغم من أنني من أهل البلد. كأنّني دخيلة على جلسات أُم زوجي.. المرأة التي أحبها وأريد أن أكون قريبة منها مثل بناتها. هل صحيح أنني أختلق مشكلة من دون سبب؟
لمزيد من التواصل مع موقع  عالم المعرفة و التميز أضغط هنا و أنضم لصفحتنا على Facebook