ثقافتنا الإسلامية.. عمليّة


كلُّ ما في ثقافتنا الإسلامية: (قرآناً وسنّةً) ينطق بالعمل، ويهتف بالتجربة، وينادي بالتطبيق.. فثقافتنا ليست ترفيّة، ولا هي معلّبات جاهزة، ولا هي نمطيّة، ولا هي ثقافة للثقافة.. هي ثقافة للحياة والحركة والعمل والتقدُّم والإزدهار والتحضُّر.
القرآن ـ كتابُ المسلمين الأوّل ـ كتاب العمل الأكبر.. حافلٌ بالآيات والبيِّنات الحاثّة على العمل، فهو نفسه يقول عن نفسه أو يصف نفسه بالقول :(هذا بصائرُ للناس وهدىً ورحمة لقوم يوقنون ) (الجاثية/ 20): فهو نور، وطريق، ومنفعة، لمن وعاه وأدرك مراده ومراميه.
وكلّ تعبير قرآني يحمل قوله تعالى: في ذلك آية، أو آيات، هو دعوة فكر وعمل.
وكلّ إشارة قرآنية من قبيل: لقوم يعقلون، لقوم يتفكّرون، لقوم يوقنون، هي دعوة للانفتاح على العقل والعمل.
وكلّ لفتة قرآنية للتأمُّل والتدبُّر في أحوال الأُمم الماضية، هي درس للنهوض، تأمّل في قوله سبحانه :(أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوبٌ يعقلون بها أو آذان يسمعون بها ) (الحج/ 46)، يعقلون أبعاد التجارب ويسمعون قصص النموّ والتطوّر.
وكلُّ لامِ تعليلٍ في القرآن هي منهجٌ للعمل وتبيانٌ لآثار وفوائد ما يأتي بعدها، فقوله عزّ وجل :(وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ) (الحجرات/ 13) دعوة للانفتاح على ثقافات الأُمم والشعوب من خلال التبادل المعرفيّ والثقافيّ، أو تبادل الخبرات والتجارب، وهو ما يصطلح عليه بـ (المثاقفة) وهي التكيُّف مع البيئة الثقافيّة وتأثُّر الإنسان الكونيّ بها.
فالله تعالى وزّع المعارف والثقافات كما وزّع الأرزاق، فما عند أهل الشرق قد لا يكون عند أهل الغرب، وما يكون عند أهل الشمال قد لا يكون نفسه عند أهل الجنوب، والقرآن واضح وصريح في الدعوة إلى أن ينتفع البشر من بعضهم البعض، كما ينتفع أهل المدينة الواحدة من أهل السوق، فلكلٍّ بضاعته التي تسدّ حاجةً من حاجات الناس.
إنّ دعوة القرآن للثقافة العمليّة دعوةٌ باتِّجاهين: دعوة الأخذ من الآخر، ودعوة الإفاضة على الآخر، ولقد ورد في أحد التفاسير قوله تعالى :(وممّا رزقناهم يُنفقون ) (البقرة/ 3) أي: ممّا علّمناهم يبثّون، أي ضرورة نشر وتعميم المعرفة.
وفي الوقت الذي ينهى النبي (ص) عن كتمان العلم أو حجره أو احتكاره، في قوله (ص) :«مَنْ كتم علماً نافعاً ألجمهُ اللهُ يومَ القيامة بلجامٍ من نار»، تراه يدعو إلى نشر العلم وبثّه في الأوساط، حيث يقول (ص) :«مَنْ نشر علماً فلهُ مثلُ أجر مَنْ عمل به».
إنّ القرآن حين يُعلِّمني أن آتي البيوتَ من أبوابها (البقرة/ 189) فإنّما يطلب منِّي أن أدرس الأُمور من وجوهها الصحيحة، لا أن أتجمّد عند النصّ فأفهمه على أنّ الدخول يكون من الباب لا من الشباك، فهذا توجيه أخلاقي عام يعرفه الناس جميعاً فلا يتسورون على البيوت، لكنّ النصَّ أكثرُ مرونة ورجاحة من مفردات المعاجم والقواميس.
وهو حينما يدعوني إلى التطلّع إلى الآخرة في قوله جلَّ وعلا: (ولتنظر نفس ما قدّمت لغد ) (الحشر/ 18)، فإنّه لا يريد أن يسمِّرني في المعنى الظاهريّ للنصّ وهو الإستعداد للمعاد، على جلالة قدر وأهميّة ذلك، ولكنّه أيضاً يُلفتني إلى الإهتمام بالمستقبل أيضاً، ولذلك ورد عن علي 7 قوله: «المؤمنون الذين عرفوا ما أمامهم» من مستقبل يُنتظر أن يكون أفضل من الحاضر، ومن معاد يحتاج إلى التأهُّب والإستعداد، وهذا هو فحوى أو رسالة ما قاله (ع) في موضع آخر: «إعمل لدنياك كأنّك تعيش أبداً واعمل لآخرتك كأنّك تموت غداً»، وتلك هي نظرة إسلامية أصيلة ومنسجمة مع ما يريده الله تعالى للانسان في حياته المتوازنة.
وإذ يخاطبني القرآن بقوله جلّ جلاله :(يا أيُّها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضرّكم مَن ضلَّ إذا اهتديتم ) (المائدة/ 105)، فإنّه يستحثّني على العمل حتى لو تحوّل الآخرون إلى مجموعة تنابلة بطّالين أو عاطلين عن العمل، فقعودهم لا يُبرِّر لي إطلاقاً الإ قتداء بهم، وإنّما المراد العكس أن يكون نهوضي سبباً لنهضتهم.
ولو نظرنا إلى تسميات السُّوَر القرآنية لوجدنا أنّها تنطق بالعلم والثقافة كما في (القلم) و (القصص)، وبالصناعة كما في (الحديد)، وفي الزراعة كما في (التِّين)، وبالطبيعة كما في (القمر) و (الرَّعد)، وعلى الثروة الحيوانية كما في (البقرة) و (النحل)، وبالسياسة كما في (الأحزاب) و (الشورى)، وعلى المجتمع كما في (النِّساء) و (الطلاق).. فهو مليء بالحيويّة ودافع إلى الحيويّة لأنّه كتاب الحياة.
ولعلّ سبباً من أسباب تخلّفنا أو جمودنا أنّنا حدَّدنا وضيَّقنا وحجَّمنا المفاهيم القرآنية على خلاف ما أراده الله تعالى من أن تكون صالحة لكلّ زمان وكلّ مكان، ولن تكون كذلك إلّا إذا حمل النصُّ القرآني شحنات الحياة الزاخرة في داخله، واستطاع أهله استخراج كنوزه من بحره.
فعلى سبيل المثال لا الحصر، فإنّ بعض المفسِّرين حينما يأتي إلى قوله تعالى في (سورة الماعون) ليفسِّر قوله تعالى :(ويمنعون الماعون ) (الماعون/ 7) بقوله: مثل: السراج، والنار والخمير (الخبز) وأشباه ذلك من الذي يحتاج إليه الناس. وقال بعضهم: (الماعون) إسم جامع لمنافع البيت: كالقدر والدلو والملح والماء والسراج والخُمرة.
وقد يكون ذلك من الماعون (المعونة) أو (الإعانة) فعلاً، لكن مفهوم العون، والمعونة، والإعانة، والتعاون، أوسع وأشمل من المفردات التي ذكرت، هو كلّ ما ينفع الناس في أُمور دينهم ودنياهم، والمفارقة الطريفة هي أن مفهوم الماعون كان يعني في الجاهلية كلَّ منفعة وعطيّة، وهذا هو الذي نقول به، وإذا كانت الحياة آنذاك بسيطة مختصرة ومقتصرة على أدوات محدَّدة، فالحاجة اليوم إلى التعاون المشترك والمتبادَل في المجالات التربوية والثقافية والصناعية والإقتصادية والزراعية وفي كل حقل وميدان، والدعوة إلى عدم منع الماعون منسجمة تماماً مع الدعوة إلى التعارف في الآية التي سبقت الإشارة إليها، فالتعارف قائد إلى التعاون والمثاقفة.
وفي الرواية عن الإمام الصادق (ع) في معنى (الماعون): «هو القرض يقرضه، والمعروف يصنعه، ومتاع البيت يعيره، ومنه الزكاة»، أي أنّه يعتبر أن متاع البيت وإعارته واحداً من جملة عناوين أو مفاهيم تجتمع تحت العنوان الكبير (الماعون)، ذلك أنّ الذي يُكذِّب بالدِّين لا يصحّ أن يكون مانع السراج أو الخُمرة وحدهما، بل المنّاع لكل خير وبرّ.
ومن اللّافت للعناية، أنّنا ونحن نعدُّ لهذا الكتاب، كُنّا قد راجعنا بعض المقابلات الصحفيّة التي أجرتها محطات فضائيّة مع رائد النهضة الحديثة في ماليزيا (مهاتير محمّد)، فلاحظنا أنّه كان يُردِّد في أكثر من مقابلة قوله تعالى :(وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوّة ) (الأنفال/ 60)، ويرى أنّه ليس هو الإستعداد أو الإ عداد الحربي فقط، بل هو كلّ قوّة سلميّة وحربيّة من طائرات وبواخر وغوّاصات وتقنيات صناعية حديثة وتربية وتعليم، فالقوّة ـ عند حامل لواء نهضة ماليزيا، وكما يفهم عمق معناها ـ هي التوافر على كلّ ما من شأنه أن يرتفع بمستوى البلد تعليمياً وصناعياً وإدارياً، وليس مجرّد التسليح أو التسابق في التسليح.
وعلى ذلك، فإنّ نصوص القرآن ومفاهيمه أُريد لها أن تكون واسعة بسعة المكان كلِّه وبسعة الزمان كلِّه، لأنّها بسعة الحياة كلّها وسعة الكون كلّه، ولذلك فهي متحرِّكة، ومواكبة، ومتطوِّرة، ومرنة، ومتجدِّدة، ومحفِّزة أيضاً.
وليس ما ورد في السنّة الشريفة، من أحاديث وروايات ومواقف وتقريرات، إلّا من هذه الثقافة العمليّة الضاحّة بحيويتها، فالنبي (ص) يعتبر طلب العلم فريضة على كلّ مسلم ومسلمة، ليثبت بذلك أنّ الإ سلام أوّل مَن كافح الأُمِّيّة على أوسع نطاق رابطاً بين طلب العلم كفضيلة بذاته، وبينه كعبادة وتكليف ومسؤولية.
وإذ يطلق الدعوة للتعلّم على مدى مساحة العمر كلّه :«إطلب العلم من المهد إلى اللحد»، فإنّه يلغي الحدود العمريّة.. فلا تقاعد، ولا خريف عمر، ولا سنّ يأس، بل هي حركة دائمة لطلب العلم لا يحدّها سنّ، وقد أثبتت التجارب العمليّة أن لا صحّة من أنّ الإ نسان يفقد مهاراته التعليميّة بتقدّم العمر، فهو طالبٌ ما طلب العلم، وهو مؤهل لأن يتعلّم الجديد، وأن يعاصر الأجيال الجديدة فيُعطي ويأخذ، فليس غريباً أن تجد عجائز في المطارات أو بعض المحال التجارية أو الإدارية يتعاطين مع الحاسوب بلغته التي يجب أن يتعاطى بها.
وإلى هذا وذاك، فإنّه (ص) أوّل مَنْ رسم أو اختطّ أسلوب البعثات الدراسيّة إلى الخارج، حينما دعا إلى طلب العلم ولو في الصين، حاثّاً على أخذ العلم بكلّ ألوانه وأنواعه ورافضاً التذرُّع بِبُعد الشُقة وطول المسافات، وقد ورث الإ مام الصادق (ع) هذا العلم وهذه النبرة النبويّة المشجِّعة على طلب العلم بقوله: «إطلبوا العلم ولو بخوض اللجج وشق المهج».
كلّ ذلك ينطوي على دلالة بالغة المعنى، وهي أنّ الإ سلام دينُ ثقافة عمليّة، فهو لا يطلب إليك أن تتعلّم تعلّماً إلزامياً، وأن تواصل تعليمك في كلّ مراحل عمرك، وأن تقطع المسافات الشاسعة لتطلب فنون العلم وأشكال المعرفة، لمجرد أن يكون ذلك ثقافةً عامّة، وتخزيناً للمعلومات، وزينةً في المجالس.. إنّه يريدك أن تثرى لتُثري الحياة.. مشكلتنا كمسلمين أنّنا لم نفعِّل هذه الثقافة لنضعها في إطارها العمليّ الصحيح، وإنّما جمدنا عليها وجمّدناها كنظرات أو نظريّات مجرّدة، ولو أنّنا تأمّلنا في أسواق ولغة المال لرأينا أنّ الذي يطالب ببطاقة اعتماد أو ائتمان يحتاج إلى خطوتين حتّى يتمتّع بالمبلغ المخصَّص له: موافقة البنك أو المصرف أو الجهة المانحة بإعطائه رقماً معيّناً، وبتفعيل هذا الرقم من خلال الإتصال بالجهة المموّلة أو المانحة، فمجرّد حصولك على البطاقة أو الرقم لا يخوّلك التصرّف عمليّاً بالمبلغ المخصِّص، وإنّما لابدّ من عملية تفعيل حتّى يتحوّل المبلغ من مجرّد رقم إلى سيولة.
ونفس الشيء يمكن أن يقال في المفاهيم الإ سلامية، هي مودعة في رصيدنا لكنّها غير مفعَّلة، أي أنّها تتحرّك في حياتنا كأرقام لا كأساليب وآليات ووسائل.. والغريب أنّنا لا نجد في أيّة ثقافة أخرى ـ غير الثقافة الإ سلامية أو الدينية عموماً ـ هذا الربط الوثيق بين المفاهيم الدينية والمفاهيم العملية، فالنبي (ص) حينما يقول عن أمر أنّه «من الإيمان» كما في النظافة، وكما في حبّ الأوطان، فإنّه يريد أن يجعل جذوة المفهوم مستقرة من خلال اعتباره حلقة من منظومة القيم الإيمانية وجزءاً من نظام الحياة العام.
وحينما يقول (ص) عن عمل مُستنكَّر انّه «ليس منّا» مَنْ فعل كذا وكذا، فهو يطرد أو يُخرج العمل من المنهج الإ سلامي الصحيح من دائرة المسلمين تقديراً منه (ص) أنّ الإ يمان ليس مجرّد نطق بالشهادتين، فهو يحدِّثنا دائماً عن المسلم العمليّ، فيقول: «المسلم مَنْ سلم المسلمون من يده ولسانه»، وعن المؤمن العملي، فيقول:
«المؤمن مَنْ أمن الناس من يده ولسانه» ويربط كلّ منفعة إجتماعية بمبدأ (الصدقة) الشامل لكل ما هو ماديّ ومعنويّ، وبالتالي فكلّ رواية أو حديث شريف صحيح ومتناغم مع القرآن، هو ثقافة عمليّة وإن حاول التخلُّف تكريسه ليكون ثقافة مدرسيّة مجرّدة غايتها التلقين والحفظ.
فالإ مام الصادق (ع) حينما يقول: «العالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس» أي لا يُخدع ولا ينخدع، يريد أن يؤكِّد على أنّ الإ نسان هو ابن عصره الذي يواكب حركته وتطوّره، فلا تعود مسألة الحواجز المرسّمة والمخطّطة بالخطوط الحمر في بعض ثقافات الشعوب، ذات معنى بالنسبة له، فلا خطّ أحمر إلّا ما خالف كتاب الله وسنّة نبيّه، وما عدا ذلك فثقافة مشتركة ونهر واحد يشرب منه الجميع.
وحينما يقول: «لا يُلسع (لا يُلدغ) العاقل (المؤمن) من جُحرٍ مرّتين»، فهو يعطينا درساً بليغاً في الثقافة العمليّة، ذلك أنّ الذي يكرِّر الخطأ عينه، هو إنسان لم يستفد من تجربة الخطأ الأُولى، وهذا هو الذي يجعله يكرِّره، وما ذاك من العقل، ولا من الإيمان في شيء.
وعلى ضوء ذلك، كانت المعرفة التجريبيّة من صلب وصميم المعرفة الدينيّة، فالإمام علي (ع) يؤكِّد أنّ «لولا التجارب عميت المذاهب»، فالتجربة نور وبصيرة ورصيد، وأنّ «في التجارب علمٌ مستأنف» أي أنّها تنفع في الدراسات المستقبلية، ولذلك دعا (ع) إلى حفظ التجارب، أي الإنتفاع بها وتفعيلها واستذكارها واستحضارها حتى تؤدِّي وظيفتها المرجوّة منها، فيقول: «العقل حفظ التجارب»، ويؤكِّد على أنّ حفظ التجارب وتداولها وتعاطيها والإستفادة منها نوعٌ من أنواع التوفيق وسرٌّ من أسرار النجاح.
وممّا يكشف عن مدى اهتمام الإسلام بالثقافة العمليّة، ما رواه الإمام موسى بن جعفر (ع) من أنّ النبي (ص) دخل المسجد فإذا جماعة قد أطافوا برجل، فقال (ص) : ما هذا؟ فقيل: علّامة، فقال: وما العلّامة؟ فقالوا له: أعلم الناس بأنساب العرب ووقائعها وأيام الجاهلية والأشعار العربيّة، قال: فقال النبي (ص) : ذاك علمٌ لا يضرُّ مَنْ جهله ولا ينفع مَنْ علمه، ثمّ قال (ص):«إنّما العلمُ ثلاثة: آيةٌ محكمة، أو فريضة عادلة، أو سنّة قائمة، وما خلاهنّ فهو فضل»، أي زائد لا حاجة له.
فما يطلق عليه اليوم بـ (الهوس العلميّ) مرفوض في ديننا، لأنّ الإسلام دينُ علم وعمل، فأيّما علم لا ينفع الناس فلا شغل للاسلام فيه، فهو يبحث عنه ويدعو إلى ما يمكث في الأرض من خلال نفعه الإجتماعيّ العام.
وفي حديث الإمام الصادق (ع) فيما أعطي الإنسانُ علمه وما مُنع، جاء قوله لصاحبه (المفضّل): «فإنّه أعطي علم جميع ما فيه صلاحُ دينه ودنياه، فممّا فيه صلاح دينه معرفة الخالق تبارك وتعالى، بالدلائل والشواهد القائمة في الخلق، ومعرفة الواجب عليه من العدل على الناس كافّة، وبرّ الوالدين، وأداء الأمانة، ومواساة أهل الخلّة (من الخليل وهو الصديق، أو من ذوي الحاجة)، وأشباه ذلك ممّا قد توجب معرفته والإقرار والإعتراف به في الطبع والفطرة، من كلّ أُمّة موافقة أو مخالفة، وكذلك أعطي علم ما فيه صلاح دنياه كالزراعة، والغِراس، واستخراج الأرضين، واقتناء الأغنام والأنعام، واستنباط المياه، ومعرفة العقاقير التي يُستشفى بها من ضروب الأسقام والمعادن التي يُستخرج منها أنواع الجواهر، وركوب السفن والغوص في البحر، وضروب الحيل في صيد الوحش والطير والحيتان، والتصرُّف في الصناعات، ووجوه المتاجر والمكاسب، وغير ذلك ممّا يطول شرحه ويكثر تعداده، ممّا فيه صلاح أمره في هذه الدار، فأُعطي علم ما يصلح به دينه ودنياه، ومُنع ما سوى ذلك ممّا ليس في شأنه ولا طاقته أن يعلم، كعلم الغيب وما هو كائن وبعض ما قد كان.. فانظر كيف أُعطي الإنسان علم جميع ما يحتاج
إليه لدينه ودنياه، وحُجب عنه ما سوى ذلك، ليعرف قدره ونقصه، وكلا الأمرين فيهما صلاحه».
هذه الوثيقة الثقافية الإسلامية تُبيِّن لنا بوضوح كيف اهتمّ الإسلام بالثقافة العمليّة وحجب عن الإنسان ما عداها ممّا لا يطالها فكره أو يستوعبها عقله وإدراكاته المحدودة، فالإمام الصادق (ع) وعلى الرغم من استعراضه لميادين صلاح الدنيا ـ بحسب تعبيره ـ فإنّه لا يحصرها بالزراعة والصناعة والتعدين والثروة الحيوانية، والصحّة والتجارة، بل بكلّ ما يحتاجه الإنسان في أُمور دينه ودنياه، وذلك هو لبّ وجوهر الثقافة العمليّة.