قصة قصير ة .. نداء صامت


يرن هاتف المنزل وأرفع السماعة فلا يردُّ أحد. كأن هناك فجوة سوداء على الطرف الآخر. مَن المتكلم؟ آلو...؟ لا جواب. أو بالأحرى إنّ الفجوة السوداء تستحيل إلى أفعى سامة ومرعبة تفحُّ في أسلاك الهاتف من دون أن تكشف عن نفسها. لماذا لا يرد؟ هل يريدها هي؟ هل كان يتوقع أنني غائب عن البيت وهي التي
سترفع سماعة الهاتف؟ ولماذا لم يطلبها على جوالها؟
تسمع بثينة الرنين، مثلي، ولا تلقي له بالاً. كأنّ زوجتي تتعمد إغاظتي. إنها تتصنع الإنشغال لكي أقوم أنا إلى الهاتف وأتلقى الفحيح. لماذا يطلب رقمنا ويسكت؟ لابدّ أنّه يريدها ويلاحقها وينتظر أن يفوز بصوتها. أم لعله عثر على الرقم في دليل الهاتف، لأنّه يعرف اسمي ويعرف أنني زوجها... لكنه لا يملك رقمها الخاص؟ هل تعرفه بثينة أم أن شكوكي في غير محلها، وهي ليست أكثر من مخاوف زوج شديد الحسّاسية، يعيش مع وساوس متعبة؟
أنا تعبان. وزوجتي لاهية عني. إنها لا تدرك عذاب إنسان يرى في عيني شريكة حياته ما يشبه الجدار العازل. إن نظراتها تصدّني، كأنني ذبابة متطفلة تقلق ملامح وجهها الجميل. لذلك أشعر بالراحة ونحن في الفراش، ليلاً والنور مطفأ، وأنا أحتويها وأنال حقي الشرعي منها من دون أن تطالعني عيناها. لذلك لا أعرف كيف أصف تجاوبها معي، فهي ليست سلبية ولا إيجابية. إن بثينة امرأة تتّبع معي سياسة الحياد الإيجابي، بحيث إنني لا أستطيع أن أحرز ما في داخلها، ولا ما تخفيه ابتسامتها المموهة وعباراتها الوادعة.
كنت مرتاحاً معها إلى أن جاء صاحب الرنين وزلزل هدوء أفكاري. وعندما أبدي لها إنزعاجي من هذه المكالمات الفارغة، فإنّها تهز كتفيها وكأن لا فكرة لها، إطلاقاً، عما يمكن أن يكون وراء السماعة. كيف أعرف أنها صادقة؟ ولماذا يسكت الطالب عندما يسمع صوتي؟ لم أقل بثينة إنني تحريت لدى مؤسسة الهاتف عن رقم المتصل المجهول، كما أنها لا تعرف أنني تقدمت بشكوى ضده، وأنّه سيقع في الفخ لا محالة. لكنّها لاحظت أنني صرت ألازم البيت أكثر من السابق، وأن عينيَّ لا تفارقان الهاتف، وكأنني أتلذذ بتعذيب نفسي، مثل مَن يختار الجلوس تحت سيف معلّق فوق رأسه بشعرة واهية. هل يسقط السيف، مرّة واحدة، ويضرب عنقي ويريحني من جحيم الشكوك؟ أم أنّ الفحيح سيبقى يعاقبني، لأنني اخترت زوجة أصغر مني بعشرين سنة، وأهملت زوجتي الأولى.. وأُم أولادي؟
سأكسر الهاتف وأقطع الخطوط، لكنني لن أجرؤ على حرمان بثينة من جوّالها.. فما أتعسني؟
* جهاز صغير يربك عقله
لم أكن أتصوّر أن يفلح جهاز صغير أبيض اللون، يسمونه التليفون، في زعزعة رجل طويل عريض يسمونه "أبا جابر". وأبو جابر هو زوجي الذي جاء بي، مع عفش فاخر، إلى هذه الفيللا الأنيقة قبل أقل من سنة. وهي غير المنزل الذي كان يقيم فيه مع زوجته الأولى وأُم أولاده. لقد قرر أن يبدأ حياة جديدة، وهذا من حقه، مثلما قررت أنا أن أوافق على الاقتران به، على الرغم من فارق السن بيننا. وعلى الرغم من أنّه لا يشبه في شيء فارس أحلامي الذي لم يأتِ أبداً.
تزوجني "أبو جابر" وفرش لي هذا المنزل وغمرني بالهدايا الثمينة. لكنني لم أكن سعيدة جدّاً ولا حزينة جدّاً. أنا أقوم بدور أعرف حدوده ولا أنوي الخروج على النص، مثلما يفعل بعض الممثلين. وقد حفظت دوري ولم أعد أحتاج إلى تلقين والدتي، كما أنني، بعد أشهر من حياتي مع زوجي، تخليت عن التأتأة وتأقلمت مع صورة الزوجة البليغة في تربعها داخل الإطار.
لست أكثر من صورة جميلة، مؤطرة داخل مربع خشبي عريض مزخرف ومصبوغ بلون ذهبي. لكنني قانعة بهذه الحدود الأربعة وأترك للأيّام أن تعدّني مثلما أعدّها... فيوم يقود إلى أسبوع، وأسبوع يقود إلى شهر، وشهر سيقودني إلى سنتي الزوجية الأولى. إن كل حياتي تسير وفق ما رسمته لها، غير أنّ هذا الرنين جاء، لا أدري من أين، لكي يخلخل هدوء أيامي ويربك انهماكي في إحصائها. فجأة، نبتت أشواك الشك في عينين زوجي. إنّه ينظر إليَّ وكأنّه يطالبني بأنّ أشرح له سبب هذه النداءات الصامتة. وبهذا وضعني أبو جابر في مربع الإتهام الصريح، بعد أن كنت مستريحة في إطار الصورة. لماذا يتصوّر أنّ النداءات تتوجه إليَّ؟ لماذا لا يكون وراء السماعة أحد أبنائه أو إحدى بناته أو حتى زوجته "أُم جابر"، لمجرّد إقلاق عيشتي أو لمعرفة ما إذا كان زوجي عندي، أو في عمله؟ إنّ المتصل المجهول لا يدرك ما يفعل بنا. لقد أهمل "أبو جابر" مكتبه وصار يجلس في البيت، طوال النهار، تاركاً لمساعديه الإشراف على العمل، منتظراً رنين الهاتف اليومي والمتكرر. إنّه يقفز إلى السماعة ويظل يكرر: آلو... آلو... مَنْ؟ وكأنّه يريد لصوته أن يدخل في الأسلاك ويقبض على المتصل ويأتي به إلى هنا. أمّا أنا فأتفرج عليه ولا أتكلّم. إنّها مشكلته وليست مشكلتي، وفي إمكانه تقديم شكوى إلى مؤسسة الهاتف وإنهاء الأمر. كيف يضع رجل في مثل مكانته عقله مع آلة صماء مثل هذا التليفون الأبيض؟