العلاقة بين الجنسين في مرآة القرآن


هل ترك القرآن العلاقة بين الرجل والمرأة سائبة بلا ضوابط ولا إلتزامات؟
أي هل ترك العلاقة بين الجنسين لإجتهاد الجنسين، يتصرفان كما يشاءان؟
أم أنّه برمج هذه العلاقة ضمن حدود وضوابط وقوانين معيّنة؟
وهل أنّ هذه الحدود والضوابط هي في الضدّ من مصلحة الشاب والفتاة خاصّة والرجل والمرأة بصفة خاصّة؟ أم أنّها في العمق من تلك المصلحة؟
دعونا ننظر إلى الإجابة عن هذه الأسئلة من خلال النظر في مرآة القرآن بإعتبارها أصفى وأنقى مرآة يمكن أن نتبيّن من خلالها الصورة الصحيحة لعلاقة إنسانية هي أقدم العلاقات وأهمّها على الإطلاق، ولقد كانت وما تزال مثار جدل ومناقشات ومنازعات كثيرة.
سورٌ عديدة تناولت هذه العلاقة من زوايا شتى، لكنّنا نريد أن نقف عند سورتين فقط لأنّنا نرى أنّهما كافيتان في إعطاء الإجابة عمّا نطرحه من أسئلة وهما (سورة يوسف) و(سورة النور).
لماذا (يوسف) و(النور)؟
إنّ القرآن كلّه نور (نورٌ على نورٍ يهدي اللهُ لنُورِهِ مَن يَشاءُ) (النور/ 35)؟ فسورة يوسف مشكاة تعطي نوراً، كما أنّ سورة النور مشكاة تعكس نوراً، ونور القرآن بعضه من بعض.. نور واحد شامل كامل لا يتجزّأ ولا يمكن تمزيقه إلى أشلاء.
الرواية إذاً غير قابلة للهضم أو الفهم.
ولذلك لابدّ من دراسة منهج العلاقة بين الجنسين في سور القرآن التي تعرّضت لهذا الموضوع: (النِّساء) و(مريم) و(التحريم) و(الأحزاب) و(المجادلة) و(الطلاق) و(يوسف) و(النور)..
- العلاقة بين الجنسين من خلال (سورة يوسف):
تشغلنا – نحن الشباب – صورة (يوسف) الشاب الجميل.. فنحن نتأمّل ملامح وجهه الذي يشعّ حسناً وبهاءً في مرايا أخيلتنا، ولم نلتفت إلا نادراً إلى صورة جماله الروحي في وداعته وصفاء سريرته ونبل أخلاقه وجمال عفافه.
فحتى يوسف نفسه لم يتوقّف عند جماله الظاهريّ الباهر، فلا نراه معجباً بشكله أو يعتبره قيمة بحدّ ذاته، ولم يدفعه جماله إلى الإحساس في أنّه مرغوب تتهافت قلوب الحسان عليه فينساق مع جاذبيته الجسدية لينجذب إلى الجنس الآخر فيخوض في وحول المعصية، بل كان يركِّز على جاذبيته الداخلية الروحية والأخلاقية والسلوكية، وهكذا وصفه القرآن: (يوسف أيُّها الصِّدِّيق) (يوسف/ 46)، (إنّا نراكَ مِنَ المُحسِنين) (يوسف/ 36).
(سورة يوسف) تقدّم للشباب وللفتيات صورة شاب اعترضت المعصية طريقه حتى كادت أن تسدّ عليه الطريق.. فأزاحها عن طريقه.. لم ير وجه المعصية الماثل أمامه.. رأى وجه ربّه في طاعته ورضاه.
هناك إمرأة جميلة في كامل زينتها تدعوهُ لممارسة الفاحشة معها فيأبى ذلك ويستعصم رغم ما لديه من مَيْلٍ جسدي كشاب في مطلع شبابه، لكنّه ربّما دخل في اللحظة الحرجة في عملية مقارنة خاطفة بين ما يمكن أن يجنيه من نزوة طارئة ولذّة عابرة، وبين ما يمكن أن يحصل عليه من نعيم خالد وسعادة أبدية يجلّلها رضوان الله وحبّه.
يوسف في موقفه هذا يقول لكلّ شاب مؤمن أنّ السكرة يجب أن لا تغلب الفكرة: لذّة مؤقّتة سرعان ما تنطفئ وتتبخّر، يعقبها عذاب أليم.. ورضا شخصي ظاهري مؤقّت ومحدد يأتي بعده سخط الله. فكيف يكون الأنس بما هو عذاب؟ والفرح بما هو غضب؟ إنّه الترجيح بين (نشوة الجسد) وبين (نشوة الروح).
يوسف (ع) اختار الثانية.
اختار أن لا يدنِّس طهر روحه، ولا يلوّثه بالهر والفجور والخيانة (قالَ معاذ الله) (يوسف/ 23).
- وسائل الإغراء:
قصة يوسف ليست مجرّد قصّة تأريخية وقعت مرّة واحدة وانتهى الأمر.. نعم، هي قصة لها ظروفها وملابساتها الخاصّة، لكنّ فحواها يتكرّر.. فكم من فتاة أغوت فتى، وكم من شابّة استدرجت شاباً. وكم من إمرأة أوقعت رجلاً في شباكها؟ فمنهم مَن لبّى واستجاب فحصد الإثم والعذاب، ومنهم من خاف مقام ربّه ونهى النفس عن الهوى. ولقد ورد في بعض الأحاديث أنّ من بين من يظلّهم الله في عرشه يوم لا ظلّ إلا ظلّه شاب دعته إمرأة إلى إرتكاب الفاحشة فأبى واستعصم.
والعكس يقع أيضاً، فكم من شاب حاول إغراء فتاة بمختلف الأساليب، ليجرّها إي أجواء المعصية أو مستنقع الفاحشة؟
هنا، نحن أمام حالة الإغراء التي تواجه الشبان في حياة تكثر فيها صور الإغراء وتتسع مساحته. وهناك من يقول – كما هو رأي بعض الغربيين – "أفضل طريقة لمواجهة الإغراء هو أن تستجيب له".
وهي نظرة مادِّية بحتة تقول للشاب الجائع: كُلْ كلّ شيء حتى الممنوع، وللشاب العطشان: إشرب كلّ شيء حتى المحرّم، فهي تعلِّمه كيف يستجيب لشهوته دون النظر إلى الوسيلة التي تشبع بها تلك الشهوة، ودون حساب لما يترتب على انكبابه وتهافته على شهواته من تحطّم شخصيته وإنسحاق إرادته أمام اللذّة. جاء في الحديث الشريف: "لا ينبغي أن يكون للمؤمن حاجة تذلّه".
وقد يؤدِّي إشباع شهوة دون تفكّر وإلتزام إلى حرمان الإنسان من نعم كثيرة أو الإبتلاء ببلاء أو مرض أو مشاكل مستعصية، وقد قيل: "وكم من شهوةٍ أورثت ندماً كثيراً".
يوسف (ع) يقول لنا كشباب: إنّ مواجهة الإغراء صعبة لا يفلت من قبضتها إلا مَن بنى شخصيته الإيمانية بناءً واعياً ورصيناً بحيث يتدبّر عاقبة الأمر، فإن كان راشداً أمضاه وإن كان غياً انتهى عنه. ولم يكن الله سبحانه وتعالى ليطلب منّا أن نتأسّى بيوسف لو كان التأسي به مستحيلاً (لا يُكلِّفُ اللهُ نفساً إلاّ وُسْعَها) (البقرة/ 286).
فكيف إذاً نواجه الإغراء؟
المواجهة تتمّ بأحد أمرين:
* الإبتعاد – مهما أمكن – عن الأجواء المشحونة بالإغواء، المغرية بالمعصية، المشجّعة على الوقوع في مستنقع الرذيلة. ورد في الحديث: "الشبهات حمى الله ومن حام حول الحمى أوشك أن يقع فيه".
* وإذا حاصرتنا تلك الأجواء، فإنّنا نهرب منها إلى الله، فهو ملاذنا الآمن، تماماً كما فعل يوسف (ع). والهروب إلى الله يتمّ بمعرفته ومخافته وطاعته ورجائه والثقة به والتوكل عليه.
فـ(يوسف) هذا الشاب (ولمّا بلغ أشدّه) (يوسف/ 22)، والأشدّ إستكمال القوّة الجسدية والعقلية، يواجه الإغراء المحموم في سنٍّ تفتح غريزته وشهوته باللجوء إلى الله (لو لا أن رأى بُرهان رَبِّه) (يوسف/ 24)، بتدبّر عاقبة الإقدام على الفحشاء (إنّ الذينَ اتّقوا إذا مَسّهُم طائِفٌ من الشّيطانِ تذكّروا فإذا هُم مُبْصِرُون) (الأعراف/ 201).
فالمؤمن الصادق الإيمان قد ترتسم غشاوة أمام عينيه، لكنّه بخلاف غيره من المستجيبين إستجابة عمياء للإغراء ونداء المعصية، سرعان ما يزيح تلك الغشاوة عن عينيه ليعود بصره حادّاً يرى الأشياء بأحجامها رؤية واضحة.
واللجوء إلى الله في مثل هذه المواقف لجوء إلى ركن وثيق (كذلكَ لنصرفَ عنهُ السُّوء والفحشاء) (يوسف/ 24). وهذا كلّه يجري ضمن معادلة (إنّ اللهَ لا يغيِّر ما بقومٍ حتّى يُغيِّروا ما بأنفسِهِم) (الرعد/ 11).
ابتعد عن الفحشاء والمنكر متراً يبعدك الله عنه ميلاً.. صن نفسك من الحرام في لحظة الإغراء، يَزِد الله في صبرك وصلابتك ومقاومتك وممانعتك بما لا تحتسب به.. إهرب إليه يحتضنك ويرعَك.. استعن به في المواقف الحرجة يمددك بعونه ولطفه.. إتّقه يجعل لك مخرجاً.
ولهذا يرى بعض المفسِّرين لقوله تعالى (ولنصرفَ عنهُ السُّوء) أنّ الصّرف عن السُّوء والفحشاء ليس أمراً بعيداً عن حرِّية الإرادة والإختيار. فالله تعالى لم يجبر (يوسف) على الإبتعاد عن المعصية، بل أثار أمامه الأفكار التي تبعده عنها بشكل تلقائي، وهي الإلتزام بشريعته والإنسجام مع خطوط هذه الشريعة.
وثمة سؤال مهم: لماذا فضّل (يوسف) السجن على إرتكاب الفاحشة (ربّ السجن أحبّ إليَّ ممّا يدعونني إليه) (يوسف/ 33)؟
إنّ إرتكاب الفاحشة، والإستجابة للإغراء، وممارسة الجنس بشكل محرّم، يمكن أن يمثِّل عند بعض الشبّان والفتيات نوعاً من أنواع الحرِّية. والسجن كما هو معروف حجز وحجب لتلك الحرِّية. لكنّ (يوسف) كما يرى بعض المفسِّرين يوازن بين حرِّية الجسد في خط الشيطان وحرِّية الروح في خط الرحمن، فيختار الثانية لأنّها أحبّ إليه، يما يحمل في داخله من معرفة بالله وبالشيطان، وبالحلال وبالحرام، وبالإستقامة وبالإنحراف.
متى يكون (السجن) أحبّ إلينا من (الحرِّية)؟
عندما تأسرنا الحرِّية لتحيلنا إلى عبيد لشهواتنا المحرّمة وغرائزنا المنفلتة ونزواتنا الطائشة، وإذ ذاك لا تكون حرِّية وإنّما قيد يكبّلنا ويشلّ إرادتنا ويسحق شخصيتنا بأقدام الذلّ. ورد في الحديث: "فوّض الله للمؤمن أموره كلّها إلا أن يكون ذليلاً".
وبإختصار، فإنّ المقاومة للإغراء لا تأتي إلاّ من خلال بناء متين للمحتوى الداخلي لشخصية الشاب أو الفتاة، أي أنّها تأتي نتيجة خطّة تربوية إيمانية متكاملة. من خلال الإلتزام بالصّلاة والصِّيام وغيرهما من الفروض الدينية، وكذلك قراءة القرآن والدعاء وذكر الله على أيِّ حال، فإنّ هذه جميعاً تنمِّي في الإنسان الإيمان وتقوِّي إرادته في مواجهة الشيطان، قال تعالى: (أتل ما أوحيَ إليكَ مِنَ الكتاب وأقمِ الصّلاة إنّ الصّلاة تنهى عنِ الفحشاءِ والمُنكَرِ ولَذكرِ الله أكبر واللهُ يعلمُ ما تصنعون) (العنكبوت/ 45).
فعملية الرّفض كانت دائماً نتاج روح عتيدة وأبيّة يراقب فيها العبد ربّه، ويتمرّد معها على النوازع الذاتية، والعوامل الخارجية التي تريد أن تحرفه عن الخط المستقيم.
(إنّ الشّيطانَ لكُم عدوٌّ فاتّخذوهُ عَدوّا) (فاطر/ 6).
(إنّ كَيْدَ الشّيطانِ كانَ ضَعيفاً) (النِّساء/ 76).
لا تتّبعُوا خطواتَ الشّيطان فإنّهُ يأمرُ بالفحشاء والمُنكر) (النور/ 21).
(إنّ الشّيطانَ للإنسانِ عَدوَّ مبين) (يوسف/ 5).
لمزيد من التواصل مع موقع عالم المعرفة و التميز أضغط هنا و أنضم لصفحتنا على Facebook