دواعي اليأس في نفوس الشباب


إنّ الحديث عن العوامل التي تدفع إلى التسلّح بالأمل، لا ينفي الحديث عن العوامل التي تدعو إلى اليأس والتشاؤم. بل لعلّ هذا الحديث يعمّق في نفس كلّ شاب وفتاة حبّ الأمل ويبغِّض اليأس ويكرِّهه إليهما على طريقة "والضدّ يظهر حسنه الضدُّ".
فاليائس المتشائم المُحبَط يرى كلّ شيء أسود قاتماً، ويلتقط من الأشياء والأشخاص والأحداث السيِّئ السلبي فقط، وقديماً قال الشاعر:
ومَن يكُ ذا فمٍ مُرٍّ مريضٍ **** يجد مُرّاً به الماءَ الزّلالا
إنّه كما يصفه بعض المختصّين بشؤون النفس: "جلّاد نفسه.. يسمّم حياته وحياة الآخرين"!
ومن دواعي اليأس وأسبابه:
- صعوبة تحقيق الأهداف المرجوّة، فترى اليائس بعد شوط أو عدّة أشواط كابد فيها مشقّة أو فشلاً أو جابه عوائق ومشاكل معيّنة، ينسحب متقهقراً، متراجعاً، ومخذولاً، آيساً من أيّ أمل في الوصول إلى هدفه المبتغى.
وقد عبّر القرآن عن هذه الحالة في الشأن الجهادي، بقوله تعالى: (لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ) (التوبة/ 42)، والشقّة: هي المسافة البعيدة التي تتطلّب مشقّة للوصول إليها، كما عبّر عن طول المساقة الزمنية بقوله: (فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ) (الحديد/ 16). فالبُعْد المكاني والبُعْد الزمني قد يدعوان لليأس والتشاؤم أحياناً.
في حين أنّ بعض الأعمال لا يقاس بالمدى الزمني المحدود، فقد يحتاج إلى أجيال وأجيال حتى يتحقّق، ولذا قيل إنّ المؤمن يموت حتف أهدافه، وقيل أيضاً: زرعوا فحصدنا، ونزرع فيحصدون.

- المكاسب الضئيلة والنتائج المحدودة. فقد يبذل أحدنا جهوداً كبيرة ولا يحصد سوى ثمار قليلة ومحاصيل ضئيلة، الأمر الذي يجعله يعقد مقارنة بين ما أنفق من جهد وبين ما جنى من مكاسب، فلا يرى الكفّة الثانية راجحة فينكمش.. ويتلاشى، وربّما يعتبر الخسائر سبباً لعدم بذل المزيد من الجهد.
علماً أنّ الخسائر قد تكون ملازمة لبعض الأرباح أحياناً، فحتى الفريق الفائز في مباراة بثلاثة أهداف مقابل هدفين، هو فريق خسر هدفين وتفوّق بهدف!

- ازدياد حالات الفشل والإحباط، فإذا جمع اليائس فشلاً هنا وفشلاً هناك، وإحباطاً هنا وإحباطات هنا وهناك، رأى أنّ المجموع الكلِّي خسائر وهزائم تتراكم، فلا يمنح نفسه فرصة المحاولة مرّة أخرى، بل يعتبر أنّ ما مرّ به كافٍ للحكم على فشل الفكرة وعقمها، في حين أنّ فشل التجربة – كما يُقال – لا يعني فشل الفكرة، وربّما كان الفشل ناجماً عن سوء تخطيط أو سوء تنفيذ، أو ضيق صدر، أو عدم تقدير لأهميّة الهدف واستحقاقه للمشقة والصبر والعناء.

- تكاثر وتساقط اليائسين من حوله. فقد يرى أنّ قائمة اليائسين تطول، وبدلاً من أن ينتخب طريقاً آخر غير طريق التساقط والانكماش والانسحاب فيُغرِّد خارج السِّرْب، تراه يلتحق بالجوقة ولسان حاله يردّد "حشرٌ مع الناسِ عيد".
فلقد مرّ شخص بقرية أصابها وباء، وكان أهلها بضعة آلاف أو يزيدون، ثمّ مرّ عليها في طريق العودة فلم ير إلّا نفراً قليلاً، فسأل باندهاش: هل قضى الوباء عليهم جميعاً؟! فقيل له: لا، مات ألف بالوباء وقضى اليأس على الباقين!!

- ضعف الإرادة والإنهزام والانسحاق أمام الحوادث الصعبة والتجارب الفاشلة، فلا ترى اليائس يعمل على ترميم إرادته وإصلاحها، بما يمنحها قوّة إضافية لتجاوز العقبات وتذليل الصعوبات، ولم يأخذ بما يقول به الشاعر من اجتياز نقاط العبور الصعبة:
كونوا كرقراقٍ بمدرجة الحصى يتسرّبُ **** تأتي الصخور طريقة فيجوزهنّ ويذهبُ

بل تراه يركن نفسه في زاوية معتمة، ويلقي اللّوم على الظروف المعاكسة، ويلعن الحظّ السيِّئ، دون أن يراجع الضعف الذي انتاب إرادته فزلزلها وزعزعها. وقد لا تكون الظروف موضوعية تماماً، فالهزائم تبدأ داخلية ثمّ تنتقل إلى الخارج.
والأخطر من ذلك كلّه، أن يشعر اليائس أن لا جدوى من العمل، أي أنّه يفقد الأمل في ضرورة مواصلة العمل على جميع الأصعدة، ويضع التبريرات والتنظيرات التي تنظّر لذلك اليأس فتعتبره إيجابياً، وما في اليأس من إيجابية تُذكر.
إنّ اليائس ينسى – في غمرة يأسه – كلّ موجبات العمل ومحفّزاته وآثاره، ومخاطر تركه والتقاعس عنه، وإخلاء الساحة للشيطان يسرح بها ويمرح.
كما لا يخفى الأثر السيِّئ والمدمّر للروايات والقصص والأشعار. فلقد لعب الشعراء والأدباء دوراً كبيراً في غرس بذور اليأس والتشاؤم في النفوس الشابّة والفتية، مثلما لعبوا أيضاً دوراً معاكساً في زرع الأمل والتفاؤل في بعض إبداعاتهم. ففي حين مثلاً تجد أدبياً يقول: "نحن محكومون بالأمل"، يقول آحر: "الآن.. الموتُ بالنسبة لي كالصحّة للمريض.. كرائحة زهر اللوتس.. كرغبة الرّجل في أن يرى ولده بعد سنوات من الأسر".. أليست تلك دعوة للإنتحار؟!

- التركيز على السلبيات فقط.. إنّهم – أي اليائسين البائسين – يرون الجزء الفارغ من الكأس، ولا يحدِّقون في الألطاف الخفيّة للمصائب والمصاعب، فهم يستنغرقون في (المفقود) ولا يتأمّلون في (الموجود)، فتضيق صدورهم، وتضيق الفرص أمامهم، ويضيق عيشهم كلّه.

- النظرة المثالية للحياة، والمقصود بالمثالية أنّ الحياة مطبوعة على الكمال والإطلاق، فإذا لم نحصل على الشيء الكامل فيها أُصِبْنا بالإحباط، والحقيقة هي أنّ الحياة قائمة على (النسبيّة)، فكلّ شيء إيجابيّ فيها لا يخلو من سلبيّات، وكلّ شيء سلبيّ فيها لا يخلو من إيجابيّات.
كيف يكون تعاملنا معها إذن؟
بأنّ نوازن بين إيجابياتها وسلبياتها، فإذا رجحت كفّة الإيجابيات كان الشيء صالحاً ويمكن الأخذ أو العمل به، وإذا رجحت كفّة السلبيات كان الشيء مذموماً فينبغي تركه.

- الكمّ الكبير للأخطاء والخطايا المرتكبة قد تجعل بعض الشبّان والفتيات يُشكِّكون بالمبادئ والقِيَم والمفاهيم الصحيحة.. علماً أنّ المفهوم الحقّ والقيمة الحيّة والمبدأ السليم أبرياء.. لأنّ الآخرين أساءوا استخدامهنّ كما يُساء استخدام الحرِّية والثِّقة والحبّ. يقول الله تبارك وتعالى معالجاً هذه النقطة:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) (المائدة/ 105).

- أخيراً، فاليائس عديم الثقة برحمة الله ولطفه وعنايته، وانّ ذلك قد يدركنا في أيّة لحظة. ولذلك كان اليائس كافراً، لأنّه يستحضر الحسابات كلّها، يسقط من حسابه هذا العامل والدوافع المحفِّزة نحو العمل والمواصلة والرجاء، ويرى في حساباته المادية البحتة أنّ الجهد شخصي محض ولا دخل لعامل الغيب فيه.