حصار السين والجيم


أعرف أنّ الغيرة من دلائل الحُب. إنّ هند تحبني من دون أدنى شك. وأنا أرى الحب في عينيها وكلماتها وتدليلها لي، وفي كوب العصير الاستوائي الذي تحرص على إعداده بنفسها، لين كل صباح. تأتي لي بالعصير وهي تُعيد العبارة ذاتها، للمرة الألف: "تكسَّرت أظفاري وفَسَد طلاؤها بسبب فواكهك الطازجة.. بالهناء والشفاء".
أحبها وهي تقول لي ذلك وهي تتفحّص يديها الناعمتين اللتين لا تدخلان المطبخ إلّا من أجل عصيري الصباحي. وأعرف أنها ستستدعي، حال ذهابي إلى العمل، عاملة تقليم الأظفار لكي تعيد الرونَق إلى الأنامل السعيدة. فماذا يبقَى، أمام هند، بعد انصراف الخبيرة الفليبينة؟ لا شيء هو تتبع خط سيري ومطاردتي بالهاتف والاستفسار عني لدى زميلاتي في العمل. لقد عرفت كيف تغري بعضاً منهنّ بالهدايا وتجندهنّ لمراقبتي ولتقديم التقارير اليومية لها عن حسن سيري وسلوكي.
لكنّ سلوكي ليس دائماً فوق الشُّبهات، في نظر زوجتي على الأقل. ولهذا فإن ساعات المساء تتحول، غالباً، إلى ساحات للمعارك والمشاجرات. ولو لا بعض تعقُّل لأمسكت لي هند دفتراً تسجل فيه أسئلتها الكثيرة التي لا أعرف من أين تأتي بها: ماذا أكلت؟ مَن زارك المكتب؟ لماذا لم ترد على ثالث مرة كلّمتك فيها؟ لماذا لم تسمع رنين الهاتف؟ أين كنت خارج المكتب؟ لماذا تبدو شارداً: هل لديك مشكلة؟ مَن هي صاحبة الصوت العالي التي كانت تتحدث في المكتب أثناء كلامي معك؟ كيف سقط زر من ثوبك؟ هل خلعته في مكان ما؟ هل شدّك أحد من ياقتك؟ هل تسمعني لماذا لا تجيب؟
أسمعها حتى أكاد أخرج من ثوبي وأكره الساعة التي سرت فيها، بكامل إرادتي، إلى حفل العرس الذي جمعني وهند تحت سقف واحد. هل هناك امرأة، على وجه هذه البسيطة، قادرة على كل هذا الدأب في التحقيق؟ إنها تزعم أنها قادرة على قراءة أفكاري ومعرفة متى أصدق ومتى أكذب. ولم أجد ما أرد به سوى: "هذا جميل.. وسيوفر علينا شراء جهاز كشف الكذب الذي نراه في الأفلام البوليسية".
لا تتراجع هند أمام ضيقي وانزعاجي. ولا تعير بالاً تهديداتي بالطَّفَشَان من البيت. ولا تأبَه لصمتي وإضرابي عن الإجابة. بل تسكت لدقائق ثم تُعاود قائمة الأسئلة من جديد. وكالعادة، ينتهي الاستجواب بأن أقرّ بكل ما حدث لي منذ غادرت عَتبَة البيت وحتى عودتي إليه. كل كلام وكل لقاء وكل تسوق وكل مفاوضات وكل لحظة سرحت فيها وبمن سرحت ولماذا. أحكي لها على أمل أن تغلق الدفتر وتنهي المحضَر. أن تتراجع نظرات الشك في عينيها وتفسح في المجال لنظرات الحُب والنداء. لكن هند لم تعد قادرة على العيش باطمئنان الزوجة الواثقة بنفسها. إنها مُصرَّة على القيام بدور "جيمس بوند" العميل السرّي وعلى رسم المهمّات الخاصة. أما الطريدة المسكينة التي هي أنا فلا ذنب لي سوى أنني أسلست لها القِيَادْ، منذ البداية، ولم أصرخ صرختي الكبرى.
* أين يفلت من حصار السين والجيم؟
منذ تزوجنا، لم يحدُث أن بَدَر من ناصر، زوجي، ما يُثير الشُّبهات. الحقيقة أنه يحبني وحبّه واضح في عينيه. لكن غيابه الطويل طيلة النهار خارج البيت يُشغل جَمَرات شكوكي ويطرح في أفكاري عشرات الاحتمالات المخيفة. ألم أتعلَّم من والدتي ومن نساء العالَم كافة، ومن حوارات الأفلام والمسلسلات، ألا أمَان للرجال؟
لا أمان لناصر ولو حاول، بكل السُّبل، أن يهدئ من ظنوني. إنه يأتيني بالهدايا بمناسبة ومن دونها. وأنا أعشَق الهدايا، لكن وشاحاً ثميناً يأتيني به من غير مناسبة هو مَدْعَاة للشك والريبة. لماذا اشتراه لي؟ هل استسلم لإغراء بائعة جميلة ودفع المبلغ الباذخ من أجل ابتسامة وعد منها؟ أم أنه أخطأ في حقي واستغل سهوي وها هو يُقدِّم لي الهدية للتفكير عن ذنب ارتكبه مع أُخرى.
الحل الأمثل للحفاظ على الرجل هو سحب الثقة منه بالكامل وزرع الخوف في قلبه لئلاً يستسهل غفلتي ويقوم بما يدمر حياتنا المشتركة. أنا أحافظ على زوجي وبيتي. ولا يهمني إذا سَخِرت صديقاتي من أسلوبي الشكاك في كل شيء.
كما لا يهمّني أن يتضايق ناصر من أسئلتي ويُناور لكي يفلت منها.. مادام يستسلم في نهاية المطاف ويأتيني بجواب لكل سؤال. حتى إذا شعرت بالرضا عن قُدراتي، كافأته أجمل مكافأة.
قبل فترة، حذَرتني إحدى الصديقات من الاستمرار في تضييق الخناق على ناصر. قالت لي إنَّ زوجي سيكسر القيد، ذات يوم، ويهرب مني. لماذا يهرب مني وهو يحبني، وأنا أحبه؟ هل يعيب المرأة أنها تقلق على زوجها وتخاف عليه من الخطّافات وهدّامات البيوت؟ حين دخلت عليه بكوب العصير، هذا الصباح، تلقّفه من يدي ووضعه جانباً ثم أمسك بأصابعي وراح يتأمّلها. قال لي أن أترك المهمة للشغالة.. ألا أفسد طلاء أظفاري بعصر البرتقال والكيوي. لم ينتظر أن أتململ وأتشكّى. لماذا يحرص على مشاعري إلى هذا الحد؟ هل هناك وراء اللطف ما وراءه؟ لعلّه يريد أن يزرع في نفسي الاطمئنان لكي يتفرّغ لخيانتي. أن يقبّل أناملي ثم يخرج متأنقاً من البيت، بحجة العمل، ويذهب إلى تَقبيل شفتي غيري.
لا. لن أدع محلّاً تتسلل منه غيري. لن أترك في نهاره فجوة ولا لحظة فراغ لا أعرف تفاصيلها. إنّ مراكز استشعاري جاهزة للرصد على مدار الساعات، وجاسوساتي مندسات في كل مكان، وهاتفه النقال يفضح تحركاته وصلاته. وهيهات أن يمنعني عن مراقبته أو أن يُبرمج له شيفرة سرية لا أعرفها. حتى وجيب قلبه يلهمني حالته النفسية ويشي بهدوئه أو باضطرابه. صحيح أنني كذبت عليه حين قلت له إنني قادرة على قراءة أفكاره، لكنها الكذبة البيضاء التي جعلته يخاف من أفكار السوء.. على الرغم من تظاهره بأنه يسخر من مواهبي ودقة حدسي.
مع هذا، أشعر بأنني تعبت وأن مهنة التلصُّص وتُفتِّت الأعصاب. لماذا لا أصل إلى الاطمئنان الكامل، على الرغم من كل جهودي الرقابية؟
هل يُسايرني ناصر لكي يأمَن غضبي أم أنه أشطَر مني.. يرسل ظنوني يساراً ويذهب لخيانتي يميناً؟ كم أكره هذه اللعبة!