عقوق الوالدين من أكبر الكبائر


أوصى الإسلام بالآباء والأُمّهات خيراً وبراً وإحساناً، وشدد في النهي عن إيذائهم بفعل أو قول، وعدّ عقوقهما من أكبر الكبائر، التي تجلب على صاحبها سوء العذاب في الدنيا والآخرة، فكل الذنوب يؤخر الله تعالى منها ما شاء إلى يوم القيامة إلا عقوق الوالدين، فإنّه يعجل لصاحبه عقوبته في حياته قبل الممات، وبعد مماته يلقى الله تعالى وهو عليه ساخط، فيبوء بالخسران المبين.
جعلت شريعة الله سبحانه وتعالى رضا الله في رضا الوالدين، وسخطه سبحانه وتعالى في سخطهما، فعن عبدالله بن عمرو (رض)، أنّ رسول الله (ص)، قال: "رضا الرب في رضا الوالد، وسخط الرب في سخط الوالد". وفي بيان معنى العقوق، وموقف شريعة الإسلام منه، يتحدث الدكتور كامل صكر القيسي، الباحث الأوّل في إدارة الإفتاء والبحوث، في قسم البحوث بدائرة الشؤون الإسلامية والعمل الخيري في دبي.
ويستهل حديثه بتوضيح معنى العقوق، إذ ورد في فتح الباري في تعريف العقوق، أنّه صدور ما يتأذى به الوالد من قول أو فعل، إلا في شرك أو معصية ما لم يتعنت الوالد، وضابطه إيذاؤهما بأي نوع من أنواع الأذى، قل أو كثر، نهيا عنه أو لم ينهيا، أو أن يخالفهما في ما يأمران أو ينهيان بشرط انتفاء المعصية في الكل.
أمّا تعريف البر، فهو صفة للولد لا علاقة له برضا الوالدين أو سخطهما، فالبر القيام بالواجب نحوهما، والعقوق التقصير في الواجب أو فعل ما يؤذيهما، قال تعالى في (سورة الإسراء الآية 23): (وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلا كَرِيمًا). وتوضح هذه الآية الكريمة أن أوّل مرتبة من مراتب الرعاية والأدب ألا يبدر من الولد تجاه والديه ما يدل على الضجر والضيق، وما يشي بالإهانة وسوء الأدب، بل يجب أن يسمو إلى مرتبة أعلى وأكثر إيجابية، حتى يكون تعامله معهما عامراً بالإكرام والإحترام، الذي يبلغ شغاف القلب وحنايا الوجدان، حتى كأنّه بساط لهما في خريف العمر، فتكتنفهما السعادة في ظلال البنوة البارة. فقد علم الله تعالى أنهما يبلغان حالة الضعف والعجز، فيصيران عند ولدهما في آخر العمر كما كان عندهما في أوّل العمر، فلا يُظهر لهما الضجر بالقليل ولا الكثير، ولا يخالفهما بالقول أو الرد العنيف أو التكذيب. قال رسول الله (ص): "أوصي الرجل بأُمّه، أوصي الرجل بأُمّه، أوصي الرجل بأُمّه. أوصي الرجل بأبيه، أوصي الرجل بأبيه. أوصي الرجل بأبيه. أوصيه بمولاه الذي يليه وإن كان فيه أذى يؤذيه". وهذا الحكم يتعدى أيضاً إلى أصدقاء والديه، فقد قال (ص): "احتفظ ود أبيك لا تقطعه فيطفئ الله نورك". فبر بوالديك أخي الكريم.
- جزاء مَن يلعن والديه:
قال رسول الله (ص): "ملعون مَن عق والديه"، أي مطرود من رحمة الله عزّوجلّ، وقال(ص): "إنّ من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه". قيل: يا رسول الله، كيف يلعن الرجل والديه؟ قال: "يسب الرجل أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أُمّه فيسب أُمّه". قال القسطلاني: وإنما كان السب من أكبر الكبائر، لأنّه نوع من العقوق، وهو إساءة في مقابلة إحسان الوالدين وكفران لحقوقهما، فإن لم يتعاط السب بنفسه فقد يقع منه التسبب، فإذا كان التسبب في لعن الوالدين من أكبر الكبائر فالتصريح بلعنهما أشد. فمن تسبب في شيء نسب إليه ذلك.
فإن كان هذا جزاء من يلعن والديه ويؤذيهما فكيف حال من يتبرأ منهما؟ قال رسول الله (ص): "من العباد عباد لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولا يطهرهم". قيل: مَن أولئك يا رسول الله؟ قال: "متبرّ من والديه راغب عنهما، ومتبرّ من ولده، ورجل أنعم عليه قوم فكفر نعمتهم وتبرأ منهم".
- أصحاب الأعراف:
ذكر المفسرون أن سبب حبس أصحاب الأعراف بين الجنة والنار أنهم كانوا عصاة لآبائهم وأُمّهاتهم، فتساوت سيِّئاتهم مع الشهادة في سبيل الله، فقصرت بهم ذنوبهم عن دخول الجنة، وتجاوزت بهم حسناتهم عن النار. فقد سُئل رسول الله (ص) عن أصحاب الأعراف فقال: "هم قوم غزوا في سبيل الله، عصاة لآبائهم فقُتلوا فأعتقهم الله بقتلهم في سبيله، وحُبسوا عن الجنة بمعصية آبائهم فهم آخر من يدخل الجنة". وقد جعل رسول الله (ص) العقوق من الكبائر، فعن أبي بكرة بن الحارث (رض)، قال: فقال: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ ثلاثاً. قلنا بلى يا رسول الله. قال الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وكان متكئاً فجلس، فقال: ألا وقول الزور وشهادة الزور، ألا وقول الزور وشهادة الزور" فما زال يكررها حتى قلنا لا يسكت.
- قهر الآباء سبباً في عقوق الأبناء:
ينبغي في المقابل ألا يكون الوالدان أيضاً سبباً في عقوق أبنائهما لهما، فحين يقصران في تربيتهم التربية الصحيحة في ظل الأخلاق والقيم والآداب الإسلامية، أو يلجآن إلى التعامل مع أبنائهما بالجفوة والغلظة والقهر والإستبداد وعدم الإكتراث بهم في البيت والأسرة، فإنّهما بذلك يكونان السبب المباشر لعقوقهم وحملهم على التمرد والعصيان. فالوالد متى كان جباراً في أسرته، وسيفاً مسلطاً على رقاب أبنائه وبناته، فقد تعسف في إستخدام حقه، وهذا سينعكس عليه وعلى بيته من حصاد خراب وتمزق وشتات، فإن كل نتيجة محمولة على مقدماتها. ولذلك قال رسول الله (ص): "مَن لم يرحم صغيرنا ويعرف حق كبيرنا فليس منّا"، فقد قدم رحمة الصغير على حق الكبير، لأنّ الرحمة بهم أوّلاً تُنتج معرفتهم لك وإجلالهم وإحترامهم لحقوقك، وبذلك يكون الأب عوناً لإبنه على بره وطاعته.
ولكن مع كل ما يبدر من الوالدين فإن طاعتهما واجبة وعقوقهما مدعاة لغضب الله عزّوجلّ وسبب للشقاء في الدنيا والآخرة، كما قال رسول الله (ص): "ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه ومدمن الخمر والمنان بما أعطى، وثلاثة لا يدخلون الجنة العاق لوالديه والديوث والرجلة من النساء". وقال (ص) أيضاً: "أربع حق على الله ألا يدخلهم الجنة ولا يذيقهم نعيمها: مدمن الخمر وآكل الربا وآكل مال اليتيم بغير حق والعاق لوالديه"، وقال (ص): "ما من مسلم له والدان مسلمان يصبح إليهما محسناً إلا فتح الله له بابين، يعني من الجنة، وإن كان واحد، فواحد. وإن أغضب أحدهما لم يرض الله عنه حتى يرضى عنه" قيل: وإن ظلماه؟ قال: "وإن ظلماه"، وقال (ص): "كل الذنوب يؤخر الله منها ما شاء إلى يوم القيامة إلا عقوق الوالدين، فإنّ الله يعجله لصاحبه في الحياة قبل الممات".
لمزيد من التواصل مع موقع عالم المعرفة و التميز أضغط هنا و أنضم لصفحتنا على Facebook