|
|
لم أستوعب، في البداية، الكلام الذي كانت تلك المرأة تحاول أن تقوله في الهاتف، فقد اختلطت عليَّ الكلمات، وفهمت أنها ممرضة في مستشفى وتريدني أن أحضر حالاً لأن حادثاً وقع.. لمن؟ "يور وايف".. من؟ زوجتي؟ متى؟ أين؟ كيف ؟ ما الحال؟ قدت سيارتي وأنا أتخبط في تساؤلات ووصلت إلى قسم الطوارئ الذي فهمت أنّها موجودة فيه. وهناك، رأيت ابنتي الكبرى تقف باكية في أحد الممرات. ومرّة ثانية لم أستوعب كيف وصلت ابنتي إلى هناك قبلي، ومَن الذي أخطرها بالأمر وجاء بها؟
حالما رأتني منار، ارتفع صوت نشيجها وارتمت على صدري وهي تردد: "ماما... ماما". لقد صَدمتْ سيارة والدتها، وهي تعبر الشارع، أمام المدرسة الثانوية التي تدرس فيها منار، وكانت البنت تقف هناك وشاهدت كل شيء، وسمحوا لها بالصعود إلى سيارة الإسعاف مع والدتها وجاءوا بهما إلى المستشفى. إن ابنتي تحاول أن تضعني في الموقف بعبارات موجزة، ثمّ جاءت الممرضة الآسيوية التي كانت قد اتصلت بي من قبل، وقالت إن زوجتي قد نقلت إلى غرفة العمليات لتثبيت كسر في عظم الحوض. وهنا ازداد نشيج منار ونظرت إليَّ بعينين مثقلتين بالتعاب، وكأنها تقول لي: "أنت السبب". لكن الوقت لم يكن وقت أخذ ورد وجدل، فقد كان عليَّ أن أملاً أوراقاً لإدارة المستشفى، وأن أكتب تعهداً وأن أوقع على شكليات سقيمة، لكن نظرات منار ظلت تطاردتي، وكأن إهمالي والدتها أقوى من القضاء والقدر.
مرّت الساعة الأولى ثقيلة وأنا واقف، احتضن ابنتي عند باب قسم الجراحة، وكنت منزعجاً بشكل مضاعف لأن منار تحملني وزر ما حدث لوالدتها، وكأن ابتعادي عن الأسرة هو الذي فتح بوابة الشرور على مصراعيها. والحقيقة أنني لم أكن قد ابتعدت بالكامل، أنني لم أنفصل عن والدتها، لكن الذي حدث هو أنني قررت، قبل أسبوعين أن أجمع حاجاتي الضرورية في حقيبة صغيرة، وأن أذهب للإقامة في فندق قريب من عملي. وكان ذلك إجراء مؤقتاً بعد أن ضاقت فسحة التفاهم مع أهل بيتي. لكن من حق منار، وكذلك من حق ابنتي الثانية مني وابني الصغير أحمد أن يشعروا بالخذلان من تصرفي. فإذا كان الخلاف قائماً بيني وبين والدتهم، فلماذا أعاقبهم على ذنب لم يكونوا سبباً فيه؟
إنّ منار تستند إلى ذراعي ولا تتوقف عن البكاء. وأنا خائف على زوجتي وأشعر بالحرج من ابنتي، خصوصاً بعد أن عرفت أنّ والدتها ذهبت إلى مدرستها لحضور إجتماع لأولياء الأمور. ألا يفترض انني وليُّ أمر البنت؟ ألم يكن من واجبي حضور ذلك الإجتماع مع زوجتي، التي داهمها القلق قبل أن تداهمها السيارة؟
* عظم كسير وقلب سعيد
عيناي مغمضتان في غرفة المستشفى، بعد العملية، وبقايا التخدير تنقلني ما بين اليقظة والغياب. وعلى الرغم من استردادي وعيي، فقد حصرت على أن أبقى نائمة، أو متظاهرة بالنوم، لكي أواصل رؤية الفيلم الجميل الذي أراه على شاشة غيابي وأسمع عباراته بأذنيَّ. أليس هذا هو منذر، زوجي، من يمسك بيدي وأشعر بسخونة أنفاسه عليها؟ سمعت أيضاً نشيج منار، ابنتي الكبرى وحبيبتي التي رافقتني في سيارة الإسعاف إلى هنا. كم أتمنى لو آخذها في حضني وأهدئ من روعها. لكن الوقت الآن هو للتأمل وللتمتع بهذه اللحظات حتى الثمالة.
كانا يتبادلان عبارات قصيرة. وكانت منار تلوم أباها لأنّه ترك البيت، ولأنّه لم يسأل عنا ولم يحضر إجتماع أولياء الأمور، على الرغم من أنها تركت له رسالة بذلك على هاتفه. وكان هو لا يكف عن ترديد عبارات المحبة، لها ولي وللولدين، ويقول إننا عمره كله ولا حياة له من دوننا. لماذا، إذن، حمل تلك الحقيبة السوداء الكريهة ومضى بلا كلمة وداع؟ وماذا كان ينتظر مني أن أفعل، وقد أصبحت المسؤولة الأولى في البيت وصاحبة القرار فيه؟ هل تصور أنني سألاحقه إلى مكتبه ,أجلس باكية عند العتبة، راجية أن يشفق ويعود؟ لا، لقد سارت بنا الحياة بكل نظامها السابق، مع فارق وحيد، هو أنّ الممثل الذي يقوم بدور الأب، في المسرحية، كان في إجازة، وكان يمكن للإجازة أن تطول من دون أن تؤثر في سير الأحداث، وسيبقى الستار يرتفع وينسدل والجمهور يصفق، لولا هذه السيارة المسرعة التي داهمتني وأنا في الطريق، ذاهلة بما حولي، أتمنى في سري لو دخلت مدرسة ابنتي ووجدت أباها ينتظرني هناك.
لم يذهب منذر إلى المدرسة، لكنّه جاء إلى المستشفى وجثا عند سريري، لكي يمسك بكفي ويحرقها بأنفاسه. إنني أشم رائحة السجائر فيه وأنتشي، وأسمع سؤاله القلق للطبيب عن حالتي وأزداد خفة. لم أعد أشعر بجرح العملية ولا بآلام الكسر في عظمي. كان قلبي منتصراً وسعيداً ويريد لهذه اللحظات أن تدوم إلى الأبد، أن أبقى مغمضة العينين وأسمع زوجي يغدق عليَّ عبارات الود والتدليل، التي توقف عن النطق بها من سنوات. ليت عظمي انكسر قبل ذلك. أين السائق المتهور لأشكره على صنيعه وأتمنّى له التوفيق؟ ستذهب تلك الحقيبة إلى برميل القمامة وسيعود منذر معي إلى بيتنا، ولن أسمح له بالإبتعاد عنا ثانية.
مرّت الساعة الأولى ثقيلة وأنا واقف، احتضن ابنتي عند باب قسم الجراحة، وكنت منزعجاً بشكل مضاعف لأن منار تحملني وزر ما حدث لوالدتها، وكأن ابتعادي عن الأسرة هو الذي فتح بوابة الشرور على مصراعيها. والحقيقة أنني لم أكن قد ابتعدت بالكامل، أنني لم أنفصل عن والدتها، لكن الذي حدث هو أنني قررت، قبل أسبوعين أن أجمع حاجاتي الضرورية في حقيبة صغيرة، وأن أذهب للإقامة في فندق قريب من عملي. وكان ذلك إجراء مؤقتاً بعد أن ضاقت فسحة التفاهم مع أهل بيتي. لكن من حق منار، وكذلك من حق ابنتي الثانية مني وابني الصغير أحمد أن يشعروا بالخذلان من تصرفي. فإذا كان الخلاف قائماً بيني وبين والدتهم، فلماذا أعاقبهم على ذنب لم يكونوا سبباً فيه؟
إنّ منار تستند إلى ذراعي ولا تتوقف عن البكاء. وأنا خائف على زوجتي وأشعر بالحرج من ابنتي، خصوصاً بعد أن عرفت أنّ والدتها ذهبت إلى مدرستها لحضور إجتماع لأولياء الأمور. ألا يفترض انني وليُّ أمر البنت؟ ألم يكن من واجبي حضور ذلك الإجتماع مع زوجتي، التي داهمها القلق قبل أن تداهمها السيارة؟
* عظم كسير وقلب سعيد
عيناي مغمضتان في غرفة المستشفى، بعد العملية، وبقايا التخدير تنقلني ما بين اليقظة والغياب. وعلى الرغم من استردادي وعيي، فقد حصرت على أن أبقى نائمة، أو متظاهرة بالنوم، لكي أواصل رؤية الفيلم الجميل الذي أراه على شاشة غيابي وأسمع عباراته بأذنيَّ. أليس هذا هو منذر، زوجي، من يمسك بيدي وأشعر بسخونة أنفاسه عليها؟ سمعت أيضاً نشيج منار، ابنتي الكبرى وحبيبتي التي رافقتني في سيارة الإسعاف إلى هنا. كم أتمنى لو آخذها في حضني وأهدئ من روعها. لكن الوقت الآن هو للتأمل وللتمتع بهذه اللحظات حتى الثمالة.
كانا يتبادلان عبارات قصيرة. وكانت منار تلوم أباها لأنّه ترك البيت، ولأنّه لم يسأل عنا ولم يحضر إجتماع أولياء الأمور، على الرغم من أنها تركت له رسالة بذلك على هاتفه. وكان هو لا يكف عن ترديد عبارات المحبة، لها ولي وللولدين، ويقول إننا عمره كله ولا حياة له من دوننا. لماذا، إذن، حمل تلك الحقيبة السوداء الكريهة ومضى بلا كلمة وداع؟ وماذا كان ينتظر مني أن أفعل، وقد أصبحت المسؤولة الأولى في البيت وصاحبة القرار فيه؟ هل تصور أنني سألاحقه إلى مكتبه ,أجلس باكية عند العتبة، راجية أن يشفق ويعود؟ لا، لقد سارت بنا الحياة بكل نظامها السابق، مع فارق وحيد، هو أنّ الممثل الذي يقوم بدور الأب، في المسرحية، كان في إجازة، وكان يمكن للإجازة أن تطول من دون أن تؤثر في سير الأحداث، وسيبقى الستار يرتفع وينسدل والجمهور يصفق، لولا هذه السيارة المسرعة التي داهمتني وأنا في الطريق، ذاهلة بما حولي، أتمنى في سري لو دخلت مدرسة ابنتي ووجدت أباها ينتظرني هناك.
لم يذهب منذر إلى المدرسة، لكنّه جاء إلى المستشفى وجثا عند سريري، لكي يمسك بكفي ويحرقها بأنفاسه. إنني أشم رائحة السجائر فيه وأنتشي، وأسمع سؤاله القلق للطبيب عن حالتي وأزداد خفة. لم أعد أشعر بجرح العملية ولا بآلام الكسر في عظمي. كان قلبي منتصراً وسعيداً ويريد لهذه اللحظات أن تدوم إلى الأبد، أن أبقى مغمضة العينين وأسمع زوجي يغدق عليَّ عبارات الود والتدليل، التي توقف عن النطق بها من سنوات. ليت عظمي انكسر قبل ذلك. أين السائق المتهور لأشكره على صنيعه وأتمنّى له التوفيق؟ ستذهب تلك الحقيبة إلى برميل القمامة وسيعود منذر معي إلى بيتنا، ولن أسمح له بالإبتعاد عنا ثانية.
|
|