السـراب (قصة قصيرة)



في منتصف الليل المظلم الطويل.. غاب فيه القمر.. وأصبحت النجوم وراء الغيوم.. وساد الكون السكون.. والناس وجوم.. وأنا جالسة لوحدي بإنتظار كامران.. نفسي حائرة تائهة وقلبي يعتصر ألما.. كنت أريد أن أنهض من مكاني لا أستطيع.. أشعر بنحول كبير في جسمي.. مسكت بطرف الكرسي وحاولت بصعوبة النهوض من مكاني..
- أين كنت يا عزيزي.. لماذا لا تأتي.. ألا تعلم إنّي بإنتظارك!!
دفعني بقول وقال:
- لا أحب أن تحاسبيني.. أعود للبيت متى ما شئت.
نزع الجاكيت ورماها على حافة الكرسي.. وذهب إلى الحمام.. أما أنا فدخلت إلى الغرفة.. أبكي بحرقة.. أصارع أشباح الظلام.. كان يتأخر قليلاً في الليل.. أمّا الآن فأصبح يقضي الليل كله في الخارج ولا يأتيني إلا في الصباح.. لقد انقطع أملي في الحياة.. آه..
أشعر بصداع كبير في رأسي.. مسكت رأسي بين يدي.. لقد اشتدت الآلام في هذه الأيّام..
خرج كامران من الحمام.. وأنا أنظر إليه.. تناول قدحاً من الحليب.. أكمل إرتداء ملابسه وأخذ الجاكيت.. إرتداها منهمكا يحاول الخروج.. صفق الباب بقوة خلفه.
وأنا أتأمله.. لا أستطيع أن أعمل شيئاً.. كيف أحدث أهلي بتصرفات كامران منذ البداية لم يوافقوا على زواجي منه.. ماذا أعمل.. لمن أشتكي همومي.. لمن أفرغ أحزاني.. يا إلهي... يجب أن أخبر والدته.. لابدّ أن أتحرك.. أحرك ساكناً.. لا أستطيع أن أعيش هكذا وحيدة في هذا البيت ومع تصرفات كامران الغريبة.. لا أعرف لماذا تغيّر هكذا.. ما الذي جرى له..؟
ارتدت ملابسها.. وذهبت إلى بيت أهله.. لعلها تجد المعين والمساعد لها.. لعلها تجد الحضن الدافىء لشكواها.. ولكن دون جدوى لاحظت بروداً في تصرفات والدته.. شرحت لها حالة كامران وهروبه من البيت.. قالت لها أُمّه:
أنتِ التي جريت وراءه.. كنت أريد تزويجه من إحدى الفتيات حسب رغبتي وبعد إكمال دراسته.
كانت أُمّه تتحدّث والدنيا اسودت في عيني.. وكأن بيتي ينهدم أمامي.. وراح شريط الذكريات يمر أمام عيني.. عندما تقدم إليَّ الخاطبون يطلبون يدي.. ولكني كنت مغرورة معجبة بنفسي.. ولا أسمع كلمات أهلي ولا أثمن مواقفهم وحبهم ونصيحتهم لي:
ولا أنسى ذلك اليوم حين قالت لي أُمّي:
لا تنسي يا حبيبتي أن تعودي في المساء سريعاً.. لأنّ عائلة السيد العسكري سيشرفوننا لتتعرفي عليهم..
- أنا قلت لكِ لا أريد الزواج.. ولا أفكر في هذه الأيّام..
وفي المساء.. جاءوا مع باقة ورد جميلة وبعد أن حييتهم ذهبت إلى غرفتي ولم أخرج إلا بعد أن خرجوا من البيت.. لقد انتظروني لأخرج عليهم مرّة أخرى.. ولكن دون جدوى حتى الشاي لم اقدمه لهم.. وسمعت كلمات زوجة السيد العسكري تقول:
لا تحزن يا عزيزي.. هناك فتيات كثيرات يتمنونك.. ما هذا الغرور كأنّها سقطت من أنف فيل.
وبعد عدة شهور سمعت بأنّه تزوج.. وبأسى قالت أُمّي: عزيزتي.. وهذا نصيب آخر ترفضينه.. بدون أن تتعرّفي عليه ولا على أفكاره أو أخلاقه.. لا يجوز لك هكذا يا ابنتي.. يجب أن تجلسي معهم.. تتحدّثي إليهم.. ثمّ تقرّري.. لا ترفسي حظك برجلك.
ذات يوم كنت جالسة لوحدي أمام الطاولة في الجامعة.. مشغولة البال سارحة أفكر في دروسي.. أتأمّل الزهور الجميلة.. رفعت رأسي قليلاً لأجد شخصاً أمام الطاولة.. يحمل صينية الأكل.. كان يريد أن أسمح له بالجلوس على طاولتي.
قلت له بهدوء وإبتسامة مشرقة على شفتي:
- تفضل
سألني: أراك اليوم وحيدة:
- لقد ذهب كل منهم إلى محاضرته..
قال مبتسماً:
- من حسن حظّي أن أجلس معك بعض الوقت وأتعرف عليك.. ومنذ ذلك اليوم شعور غريب انتابني.. أحسست بفرحة كبيرة.. سمعت طرقاً ناعماً على باب قلبي المغلق منذ مولدي.. وصوت ملائكي يناديني بإسمي.. وإذا بالباب المغلق يفتح على مصراعيه ببسمة ناعمة.. وهمسة رقيقة.. أصبح وجهي شاحباً.. كنت أخاف أن يسمع خفقات قلبي عندما التقي به.. كل شيء جميل من حولي..
كامران هذا الشاب الوسيم الذي يملك ثروة كبيرة وعلى مستوى من الثقافة والتحرر هل يهتم بي هكذا.. فأنا سعيدة الحظ.. فقد أصبح قلبي عنده.. ومنذ الوهلة الأولى دق قلبي للحب.. وأعتقدت أنّ سعادتي لا تكون إلاّ معه.. لذلك تكرر اللقاء في ساحة الجامعة.. وعلى طاولة الغذاء وفي المكتبة.. في كل مكان أراه أمام عيني تعلقت به كثيراً.. وزاد الكلام بيني وبينه.. لذلك أصبح كامران هو كل حياتي لقد اهتم بيَّ إهتماماً عجيباً زاد من حبّي له وتعلُّقي به..
الشمس التي أشرقت في ليل حياتي المظلم الطويل.. واضاءت وحدتي الكئيبة بنور الحب والأمل.. أقبل الربيع في حياتي.. ورقصت الأطيار.. وغردت على الأشجار.. وتفتحت الورود والأزهار.. وتلونت بألوان الحُب.. وتعطّرت بأنفاس الحياة.. وتسابقت اسراب النحل بجمع الرحيق.. وابتسمت الحياة لي لأوّل مرّة.
كانت فرحتي كبيرة عندما أفكِّر بلقائه.. كنت أذهب للجامعة بنشاط وحيوية لألتقي بـ(كامران) أتحين الفرص.. ولا أعرف كيف أنهي المحاضرات.. أريد أن أتمم كل شيء من أجل أن ألتقي به.. كانت الأيّام تمر والحب يزداد بيننا.. وكل لحظة أحن إليها وأحسب لها ألف حساب.. أخاف من الزمن أن يسرق سعادتي عندما ألتقي به.. وتراقصت أمام عيني أحلامي الوردية.. تبني قصوراً في الخيال.. وهو كذلك يبادلن الحب وينعم عليِّ بكلمات لطيفة مما يزيد في شوقنا ولهفة لقائنا.. حتى اتِّفقنا على الزواج.. وهذه أسعد لحظات حياتي قلت لوالدتي:
- أنا موافقة على ما يقوله أهله.. أرجو أن لا تعارضيهم.. ولا تفرضي عليهم.. بالنسبة إلى الحاضر والغايب أو مراسم العقد.. حفلة العرس.. حتى بدلة الزفاف.. أنا راضية بأقل شيء..
كنت أرسم السعادة التي تحلم بها كل فتاة.. كنت أتصوّر إنّه حياتي كلها متوقفة عنده.. فهو كل شيء في وجودي.. ليس هناك وجوب لذهابي للجامعة.. لم أحتج إلى الدراسة.. أن دروسي كلّها بدون فائدة مادمت مع كامران.. فكلّه وقت ضائع..
لقد كانت مراسم العقد والزواج مختصرة جدّاً.. وتسرعنا في الزواج لأني أريد أعيش معه لا طاقة لي عن البعد.. فهو أصل الحب والسعادة..
وكانت أيّام العرس جميلة جدّاً.. لقد عشقت شهرين أو ثلاث في قمة السعادة التي تحلم بها كل فتاة.. لقد كان الزواج المثالي.. والحبيب الغالي.. كنت أحسد نفسي وأشكر الله على هذا الزواج السعيد.. من أين جاء كامران.. وكيف تعرفت عليه.. كانت فترة الحب قصيرة ولكنّها أملت عليَّ وجودي.. كنت أعيش في عالم الوجد.. أحب أن أبذل كل ما في الوجود.. أن أمنحه كل حياتي لأنّه كان سخياً في ذلك.
ولكن.. لم تكد تمر الشهور الثلاثة على سعادتنا.. حتى بدأت أستغرب من تصرُّفاته وعدم إهتمامه بيَّ عجبت وبهذه السرعة.. لماذا تغيّر كامران.. لماذا يتحوّل إلى إنسان آخر.. لا يبالي ببيته وزوجته بدأ يتأخّر ليلا، مرّة.. مرّتين.. لا.. لقد أصبح شيئاً عادياً.. لذلك حزنت على نفسي وأنا أرى السعادة تودعني.. قلت له:
كامران لنسافر معاً في رحلة قصيرة.. ربّما مللت من وجودنا في البيت.. وكما قلت لي..
- سأرحل معك في هذه الدنيا..
- وماذا به بيتك.. هل ينقصك شيء..
- لقد سئمت من البيت.. وأنت تقضي أغلب الليل في خارجه.
- المرأة التي تهتم ببيتها لم تسئم منه..
وكلّما اعددت المائدة.. وأحضر الغذاء تبدأ الإحتجاجات بأنّ الأكل غير لذيذ.. يرمي الصحون وينهض من المائدة.. والآن ماذا أقول لوالدتي.. أقول كامران شاب أحمق ومدلل وأخلاقه غير جيِّدة.. كيف أقول لوالدتي طريقة تعامله السيِّئة.. هل أقول لها لقد مد يده ليصفعني.. لماذا..؟ هل أخبرها بأنّ جسمي يئن من ضربه.. والآن عيني متورمة وأصبح لونها داكناً.. يكاد رأسي ينفجر.. وبصعوبة أتحرّك من مكاني.. أخطو خطوات بطيئة إلى المطبخ أفتح الثلاجة لم أجد فيها شيئاً من الطعام.. أغلق باب الثلاجة.. التقط كسرة من الخبز.. أقطعها بأسناني أحسست بمرارة مذاقها.. أخرجتها من فمي.. وبأنامل مرتعشة شربت قدحاً من الماء.. ودقات قلبي تزداد إضطراباً.. أخذت قراراً أخيراً.. ارتديت ملابسي وكتبت بعض الكلمات على وريقتي..
وذهبت إلى غير رجعة.. وهكذا كانت النهاية المأساوية لحبنا.. والبداية الحتمية لفراقنا..
لمزيد من التواصل مع موقع عالم المعرفة و التميز أضغط هنا و أنضم لصفحتنا على Facebook