الشعور الداخلي بالمسؤولية


(القانون) يضع عقوبات على المخالفات الخارجيّة.. أمّا المخالفات الداخليّة فلا شأن له بها.. إنّه يقف عند عتبة الجرائم المرئيّة.. القانون لا يعاقبك إذا كذبتَ وهو لا يعلم بكذبك، ولا يعاقبك على خيانتك إذا لم يُسجِّل بلاغاً بهذه الخيانة، بل لا يعاقبك على مخالفة أو جريمة أو جناية منظورة لكونها لم تقع تحت بصره، فقد لا يعاقب السارق إذا لم يشاهد سرقته بأمِّ عينه، أو لم يبلّغ أحدٌ ضدّه.
القانون يستطيع أن يمنع الكثير من الجرائم ما دام (مراقباً) جيِّداً: يفتح عينيه في النهار.. ولا ينام في الليل، ولا يغفل عن المناطق البعيدة أو المغلقة، لكنّه – مهما تطوّر – يبقى في غفلةٍ من جرائم كثيرة لم يرصدها، أو سجّلها ضدّ مجهول وأقفل التحقيق.
إذا غاب القانون.. إذا نام القانون.. إذا ترخّى القانون، لعب الفأرُ في غياب القطّ، وتحلّل الخارجون عليه من سلطته لينهبوا ويقتلوا، ويضعوا أو يصنعوا من أنفسهم قوّة بديلة عنه ليُرهبوا الناس ويستولوا على ممتلكاتهم، ذلك أنّ المخالفة تكون في مأمن إذا غابَ القانون حتى من الذين يراعون القانون وهو يراقبهم.
(التحايل) على القانون ممكن شواهده كثيرة.. و(التلاعب) بالقانون ممكن وأمثلته لا تُحصى.. و(القفز) على القانون ممكن ونماذجه متزايدة ومن حرّاس القانون أحياناً..
ولذلك فإنّ القوانين لم تنجح في إغلاق الباب على الجرائم التي تُرتكب وراء ظهره، وبالتالي فهو لا يعرف (الضمانات) الكافية التي تقلِّل أو تحدّ من أو تمنع من وقوع الجريمة، حتى الكاميرات المزروعة في الأسواق التجارية الفخمة التي استعان بها الإنسان لتكون عيونه الإضافيّة المراقبة لها قدرة محدودة، وحتى المخبرون لهم مساحة تحرّك معيّنة.. فما هو الحلّ إذن؟
العبادات (الدِّين) جاء ليكمِّل النصّ ويسدّ الثّغرة.
زرع في داخل كل إنسان متديِّن (رقيباً داخليّاً) (عيناً داخليّة) (كاميرا خفيّة) جعل من نفسه رقيباً على نفسه، ولم يُسقط رقابة القانون، وحتى لو غفل القانون أو نام فإنّ هذا الرقيب يقظ وعيونه مفتوحة دائماً، وهو معنا أينما كنّا وخاصّة في الأماكن التي نخلو فيها لنزواتنا وشهواتنا ومعاصينا التي لا ترصدها العين المجرّدة أو عين الكاميرا الخفيّة.
فحينما تريد أن ترتكب معصية وتحدِّثك بـ(الإمتناع) والتحرّج والكفّ، فما الذي يمنعك من إرتكابها وليس هناك إلّا أنت؟
وحينما يقع مالُ الآخرين تحت يديك ولا أحد يُراقبك منهم، فإنّ يدك لا تمتدّ أو تتطاول لتأخذ شيئاً منه حتى إذا لم يعدّوه أو يحسبوه وراءك.. فما الذي يُمسك يدك ليحجزها أو يحجبها عن التقاط المال؟
وحينما تتعهّد – لأيّة جهة – وتلتزم بتعهّداتك حتى مع إنعدام الرقابة الخارجية أو غيابها، وحتى مع عدم وجود ورقة تثبت ذلك، فما الذي يجعلك تلتزم وتنفِّذ شروط العقد أو بنود العهد؟
وحينما تكون في غرفة مغلقة أو في البيت وحدك، وحولك شيء أو أشياء من الممنوعات ولا تقترب منها، فما الذي يجعلك تتركها وتبتعد عنها وليس هناك مَنْ يراقبك أو يعاقبك؟!
يُروى أنّ غلاماً دخل بستاناً ولم يأخذ من فواكهه الشهيّة الزكية الطريّة التي يسيل لها اللّعاب شيئاً، وكان البستاني (الفلاح) في مكانٍ ما من البستان يراقبه، حتى إذا أنهى الغلام جولته داخل البستان ولم تمتدّ يده لأيٍّ من أشجاره وثماره بالسّوء والسّرقة، جاءه البستانيّ وقال له: لِمَ لَمْ تأخذ شيئاً من هذا البستان مع كثرة أزهاره وأشجاره وثماره اللّذيذة المتنوِّعة، ولم يكن هناك رقيب تخشاه؟!
قال الغلام: إنّ نفسي كانت معي، وكرهتُ أن أرتكب القبيح أمامها فأبدو صغيراً حقيراً في نظرها!
فسُرّ البستانيّ بجوابه وأدبه نزاهته وقدّم له سلّة من الفواكه الملوّنة وباقة من الأزهار العطرة على أمانته!!
وفيما يلي قصّة واقعيّة تُبيِّن لنا بالصورة الحيّة المتحرِّكة كيف يعمل القانون الداخلي.. أو الرقابة الداخلية، أو ما يحلو للبعض أن يُسمِّيه بالشرطي الداخلي.
ذات يومٍ طَلِقٍ، وفي قصرٍ ضخم، حاولت امرأة جميلة – سيِّدة القصر – أن تُغري خادمها الذي معها في القصر أن يرتكب معها الفاحشة..
تزيّنت له وتبرّجت.. وغلّقت كلّ أبواب القصر مخافة أن يدخل عليهما شخص من الخارج فيشهد الفضيحة، ودعت الخادم الشاب إلى ممارسة الرذيلة معها..
الشاب الذي صعقته المفاجأة، وجد نفسه محاصراً من جميع الجهات.. جمال المرأة الطاغي.. رائحة الشهوة المتصاعدة.. والأبواب المقفلة قفلاً محكماً.
إنّه شاب متديِّن.. وهو يعلم من خلال تربيته الدينية أنّ هذا العمل منكَر وقبيح وجريمة.. فكيف يفلت من قبضة الأجواء المحيطة؟!
كان لدى المرأة طفلٌ في المهد (وقيل صنمٌ على الرّفِّ)، فألقَت على وجهه غطاءً حتى لا يراهما.
سألها الشاب: لماذا فعلتِ هذا؟
قالت: لئلّا يرانا ونحن فيما نحن عليه؟
قال الشاب المتديِّن: تخشين من نظرة طفلٍ (أو صنمٍ جامد) يراقبنا.. ولا أخشى من نظر الله المطّلع علينا؟!
لكنّه سرعان ما انتبه متسائلاً: هذه ليست زوجتي.. ليست حليلتي.. هي زوجة رجل آخر إئتمنني على بيته، كيف أخونه وهو غائب؟ لا لن يكون ذلك..
فرّ من بين يديها، فهرعت نحوه وهي تقول: لماذا أنتَ خائف؟ ليس هناك مَنْ يعلم بهذا؟
قال لها: لسنا وحدنا.
تلفّتت فلم ترَ أحداً.. قالت: لا أرى غيرنا.. مَنْ تعني؟
قال الشاب المتديِّن: إنّ ربِّي الذي (يرى) و(يسمع).
ولمّا لم تنفع معه كلّ الحيل والترغيبات، قالت له: سأفضحك بأنّك أردتَ الإعتداء على شرفي إذا لم تنزل عند رغبتي، وسآمِر الحرس أن يُلقوك في السّجن، فقال لها: هذا أهوَن من أن أعصي ربِّي!!
سؤال على هامش القصّة(*):
لو كان هناك شاب آخر غير متديِّن.. غير مُلتزِم بشيء.. غير آبِه أو عابئ بأيّة رقابة، هل كان يتردّد في الإستجابة لدعوة تلك المرأة الداعرة (الخائنة) ليُمارس معها المعصية؟ أين الفرق بين الاثنين؟
كلاهما في مرحلة الشباب.. في فترة فوران وطغيان الغريزة.. كلاهما يتعرّضان لنفس الموقف الصعب المحرج والمغري جدّاً بلا إختلافات ظاهرية، أي أنّ الظروف المحيطة واحدة.. فلماذا يمتنع الأوّل، وهو لا يشتكي من نقصٍ في الذكورة والرجولة، ويستجيب الثاني بلا أدنى تردّد وبسهولة؟
ليس هناك إلاّ سبب واحد: الثاني لم يكن كذلك يعاني من (نقص الرجولة) بل كان يعاني من (نقص التديّن) أي من ضعف في الحراسة أو الحماية أو الرقابة الداخليّة.
فمَن أو ما هذا (الشرطي) أو (الحارس) أو (الرّقيب) الذي جعل الأوّل (يمتنع) ويرتدع، وجعل غيابه أو انعدامه عند الثاني يتحمّس و(يندفع)؟
يُسمِّيه البعض بـ(الضمير) ويُسمِّيه آخرون بـ(الوجدان)، وبحسب اللغة الدينية فإنّ اسمه (التقوى)، ويُقال له (الورع) أيضاً.
إنّه ليس عُشباً صحراوياً ينبت بلا زراعة.. أو طُحلباً ينمو على حوافي الأحواض بلا تدخّل في غرسه وإنمائه.. إنّه غرسة في حديقة الدار يتعهّدها الغارس يومياً بالسقاية والعناية والرعاية، ويُبعد عنها الأعشاب الضارّة التي تمتصّ نضارتها وتصيبها بالذبول والهُزال.
إنّ لهذا (المنبِّه): الضّمير، الوجدان، الرقيب الداخلي، الوازع الديني، المحرِّض الأخلاقي، الضمير.. الشعور بالمسؤولية، صوتٌ يُشبه صوت (صفّارة الإنذار) أو (الرادار) ينبِّهك إلى أنّ العدوّ قادم فخذ حذرك وتأهّب واستعد لمقاومته ومواجهته، أو اتّجه إلى الملجأ لتقي نفسك من غارته.
هو عند (المتديِّن).. (الله) سبحانه وتعالى.
ولذلك قيل: "إنّ ضميراً خالياً من الله كالمحكمة الخالية من القاضي"!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
- الهامش:
(*) هذه هي قصّة يوسف (ع) الواقعية التي نقلها لنا أصدق المصادر على الاطلاق وهو القرآن الكريم، وقد نقلناها بشيء من التصرّف مع الحفاظ على مضمونها وهدفها.