قصة قصيرة .. صحوة


لعب الزمن لعبته، وترك الحسرة تتغلغل في القلب، والأسى يهيمن على الجوارح، منذ تلك اللحظة التي بدأت فيها معاناته، صار وجهه هضيماً، غادره بهاؤه القديم، وتحول إلى شجرة لا تطرح إلا الكآبة والإنكسار، وحين صحا، نفض حزنه ولملم ذاكرته ولحمه وانطلق كالطائر الذي أفلت من قفصه دون توقع، يجوب الشوارع.
حين أخبروه بأن شقيقه قد مات، كان الصمت يدهمه، لأنّ الكلام قد هرب منه بكل اتّجاه، وعجلات الليل تحمل فوجاً من الذكريات لتبرد نار قلبه الملتهب.. شعر برغبة في رميهم بالرصاص، فقد كان على يقين بأنّهم مخطئون، وسوف يعود حاملاً معه كل أمنياته التي سافر من أجلها، وبعد يوم واحد جاء ولكن في صندق طويل، حينئذ غسل وجهه بماء الدهشة ولم يقترب منه، لم يشأ أن ينظر إلى داخله لأن روحه كانت معلقة هناك بآخر صدفة زرقاء تنبض في شواطئ عروقه.. ولكن لم يعرف سبباً لكل تلك الأفكار التي كانت تغزو قلبه، وتنهش نفسه كسرب من النسور الجائعة، في تلك اللحظة فكر بالانتحار، فالموت راحة وخلاص لمن هو مثله، ولكن كيف؟ الروح غالية، أيذهب إلى النار؟ ألا تكفيه ناره هذه؟ عجيب أمر الإنسان، يتمسك بالحياة على الرغم من قسوتها!
حين كانوا يرددون الكلمات الحزينة، كانت قطرات الدهشة تصفع وجهه فيتجمد، وكان يسخر منهم في داخله حينما ينظرون إليه بأسف، وانتظر طويلاً إلى أن شاخ إنتظاره، حتى تمزق بين الحنين وبين العذاب. في كل ليلة وبعد أن يهجم الغسق ملوحاً بشفرته ذابحاً دونما استئذان آخر خيوط الضوء، كان يتسلل في رؤوس أصابعه إلى غرفة شقيقه، يفتح الباب بهدوء، يدخل وإيقاع قدميه تقرعان أعماقه وكأنّه وحيد في غاب، والعتمة تتكاثر كالفطر في قلبه، وتتكرر المأساة، يظل ساهراً في ليلة نصف ميتة، يرعاها قمر شاحب، يمارس إنكساره ووحدته، ظمآنة روحه وجسمه متعب ومستسلم، ولكنّه لا ينام، ولا يغمض له جفن، يعوم ويغرق ويقاوم بنزق أفكاره الشريرة، فكلّما جاء الليل، يسرق خصلة من روحه لتشتعل في جمرة الذكريات.
اقترب من السرير، وقف والسكون يلسعه كتيار يبعث الحياة في جهاز هامد، دفع ثقل الجفنين وهو يحس كأن ثمة أفعى في أحشائه تتلوى، وألف دمعة تنضح فوق كل جزء من جسده، وبكاء ينهمر يكاد يستبق الوجع، ثمّ ارتمى رمية اليتيم وانتحب طويلاً وهو يبحر في الذاكرة، يرسم تفاصيل وجهه ويتوه في غابات الشرود إلى أن غادره الظلام واخضّر بالضوء جفن الصباح. في كل يوم يمر، كان يزرع بذور الأمل في صدره، بأنّه سيعود، ولكن الغد يأتي وتتساقط الأيّام كسبحة قُطع خيطها.
مرّت أيّام وشهور كان فيها صامتاً، حتى أنّه لم يتكلم سوى بضع كلمات لم يفهمها من سمعها منه، حلم ذات يوم به محفوفاً بهالة قدسية من الملائكة، سلّم عليه، مد يده وقرّب فمه من خده، أراد أن يقبّله، ولكنه لم يجد سوى السراب، استيقظ من النوم، نظر إلى سريره الفارغ، ودون وعي بحث عنه في أرجاء البيت، لكنّه لم يجد شيئاً، وعندما اصطدمت جبهته بالجدار، عاد إلى الوعي، عندها بكى بتشنج لأن قلبه قد صيّرته الجراح مدينة منكوبة.
في صباح أخرس غادر مختفياً في حافلة وخلّفه، يعيش وحيداً في بيت غاب عنه الدفء، منذ رحيله وهو يتمتم: "لماذا رحلت وتركت ذاكرتي تصبح مسلة للأحزان؟".
وبالرغم من آية الجوع، كان يقضي وحدته مع أشيائه، أوراقه، ثيابه القديمة، صورته، وحين تأملها، انتفض كالملدوغ وعض شفتيه: "يبدو أنّه لن يعود أبداً". لم يدرِ كم من الوقت مر وهو جاثم أمام صورته يتأمل وجهه بذهول، وفجأة وجد نفسه يبكي بكل لوعته وضعفه، وخيّل إليه أنّه واقف أمامه ويربت على كتفه بحنان، وأحس بدوار ثمّ بموجات متقطعة كأنّها أمواج بحر تعبر رأسه، ثمّ تخرج إلى أن غلبه النعاس ونام.
في الصباح المبكر والكون ما زال نائماً صحا وكان صدى كلماته يخترق رأسه كالصاعقة، كان يقول: "الحياة تتغيّر، ولكنّها تستمر فلا تيأس، الحياة وجهان: وجه يبكي وآخر يضحك".
وفجأة انسكب في أعماقه شعاع وهو يضيء كنيزك ويخترقها وينيرها، عندما اكتشف بأنّه يقبع وسط قوقعة وهمية، سارع إلى إرتداء ملابسه، بعد أن نظف أجفان عينيه من تقرحات الأيّام والشهور، خرج ليرتب أعوام عمره المتبقية المبعثرة فوق أرفف الأيّام.