قصة قصيرة .. حكاية والدي !


نظرتُ إلى ساعتي وأنا في سيارتي أنتظر خروج طفلي من مدرسته. رأيته يهرول إليَّ وهو يجرُّ حقيبته بيده. خرجت إليه وحضنته بقوة وأخذت حقيبته وساعدته على الركوب. كان طفلاً جميلاً في السابعة من عمره. عدنا إلى المنزل وقضينا وقتاً ممتعاً معاً، ندرس ونمرح ونأكل، حتى حان موعد نومه، فسألني أن أقصّ عليه قصة، فسألته ماذا يريد مني أن أقص عليه. قال: "احكي لي عن أبي".
خفق قلبي بشدة، وشعرت بأنّه سيخرج من أضلعي، فتنهّدت بقوة. نظرت إليه، وبدأت أقص الحكاية:
عندما استيقظت ذات يوم من النوم في أحد أيّام إجازتي، كنت أشعر بالكسل. حاولت النوم مرّة أخرى، لكني سمعت أحداً ما يطرق الباب، وعندما فتحته، وجدت "ساعي البريد" في إنتظاري، وكان يحمل لي رسالة. تعجَّبت كثيراً، ثمّ أخذتها منه، ففتحتها وقرأت سطورها، لأكتشف أنّها أُرسلت إليَّ عن طريق الخطأ، من كاتب صحافي في "جريدة"، كان يقصد أن يرسلها إلى صديقه. قرأت بعض مقتطفاتها، وشعرت بالخجل من نفسي. أغلقت الرسالة، ثمّ أعدتها إلى الظرف، ارتديت ملابسي، وتناولت طعامي. وقررت أن أذهب إلى "الجريدة"، حيث يَعمَل لأعيدها إليه، وأخبره أنّ صديقه انتقل من مسكنه، وأنّي سكنت في شقته بعد أن تركها وغادر.
خرجت من البيت وكانت شمس الأُفق تتبعني. ركبت الحافلة حتى وصلت إلى مبنَى "الجريدة"، حيث يعمل. سألت عنه، فدلّوني إلى مكتبه، فكان أن صعدت إليه. رأيت اسمه على الباب، وما إنْ طرقت طرقتين، حتى سمعت صوته يناديني، فدخلت إليه والارتباك يعلو ملامحي. طلب مني الجلوس فجلست وهو ينظر إليَّ نظرة المتسائل. أعطيته الرسالة وأخبرته بما حصل معي. ابتسم لي، ثمّ شكرني وسألني ماذا أشرب؟ اعتذرت له، لكنه أصرَّ على أن يكافئني حتى لو بقدح من "الشاي"، جلست أراقبه وهو يعمل. سمعته يتحدّث مع صديقه حول قضية ما تشغل فكره. شعرت بأنّ هناك شيئاً ما يجذبني إليه، وبأني لا أستطيع أن أبعد نظري عنه. أنْهَيت فنجاني، وقمت من مكاني، فقام ومَدّ يده للسلام شاكراً لي حُسن صَنِيعي. نظرت إليه، سحَرَتني عيناه الواسعتان وقوة جسده وسمرة بشرته. شعرت بأني أذوب بلمسة يده، وبأني أصبحت كالعصفورة أمام نسر شامخ بقوته وحذاقة نظرات عينيه. دق قلبي سريعاً، وخرجت من مكتبه، مشيت في الطريق وأنا أفكر فيه وفي سر جاذبيته وهدوء صوته وعمق فكره وبلاغة ألفاظه. وعدت إلى بيتي، وأنا لا أزال أشعر بتأثير روحه في روحي، قضيت أيامي وأنا أفكر فيه.
توقَّفت عن متابعة الحديث عندما نام طفلي، فدَثّرته وقبّلت جبينه، وخرجت من غرفته. وجلست وحيدة أناجي روحي حتى أدمعَت عيناي من كثرة الشوق إليه والخوف عليه. بكيت بحرقة حتى تذوقت بكائي، فمسحت دمعي، وقمت أتفقَّد بريدي وهاتفي، عسَى أن أجد منه رسالة تُسكِّن ألم فؤادي. تذكرت يوم رحيله، يومها، لم أستطع التوقف عن البكاء. كان سفره المتواصل يُحزنني، لكني هذه المرّة أشعر بأنّه سيقتلني.. فتحت التلفاز لأسمع الأخبار لعلِّي أجد ما يُطمئن قلبي عليه، فهو ذهب إلى بلاد بعيدة ليغطي أحداث الحرب والاحتلال، لكني لم أجد شيئاً، وبقيت أقلب في المحطات إلى أن غَلبَني النوم.
جاء اليوم التالي، وحان موعد نوم طفلي. فسألني أن أكمل له قصة أبيه.
قلت له: ذات يوم، كنت في مدرستي أعلِّم التلاميذ الصغار الحروف والكلمات والأناشيد، وأحكي لهم القصص. فسألني: ما هي تلك القصص؟
أجبته: كنت أحكي لهم قصص الأنبياء والرسل. من قصة آدم وخلقه، ثمّ قصة نوح وسفينته، مروراً بقصة موسى وفرعون، وقصة عيسى وأُمّه، حتى أتممت لهم القصص بقصة سيدنا ونبينا محمّد (ص) ومعجزته. فرنّ جرس الفسحة، واندفع الأطفال إلى الساحة يلعبون ويمرحون ويأكلون ويتدافعون من حولي، كم كنت أشعر بالسعادة عندما أراهم، وهم في قمة سعادتهم. وضعت يدي على بطني لأسلم على طفلي، كان حينها لا يزال جنينا في الشهر الثالث. بدأت أتخيله وهو في سنهم. يلعب معهم، ويلوث ملابسه مثلهم، وينطق بمثل حروفهم، ويأتيني بأكياً شاكياً كلما تعارك معهم وخاف منهم.
سرحت بأفكاري بعيداً، حتى رأيت طفلاً صغيراً يلعب بأوراق جريدة، فاهتزت مشاعري، تذكرته وتذكرت لمسة يده، وقوة نظرات عينيه التي أشعلت ناراً لم تنطفئ في داخلي، وسرقت مني أحاسيسي. تنهّدت، وخرجت من أفكاري عندما سمعت صوت الجرس. مضى اليوم كعادته، وانصرف الأطفال إلى بيوتهم، وانصرفت أنا إلى بيتي. مشيت بهدوء وأنا أتأمل الأشجار الخالية من أوراقها في موسم الشتاء.
عدت إلى بيتي، رميت حقيبتي واستلقيت على الأريكة، عسى أن أغمض عينيَّ، لأنام وأنساه ولو للحظة. غفوت قليلاً حتى سمعت صوت جرس الباب. وما إن فتحت حتى وجدته واقفاً أمامي. دعوته إلى الدخول، لكنّه اعتذر، وطلب مني بصوت حنون دافئ أن ألقاه في الساعة الرابعة النصف في أحد المقاهي. ذهبت إلى المكان المحدد فوجدته في إنتظاري، والابتسامة تضيء وجهه، جلست وأنا لا أستطيع النظر إليه حتى لا أذوب بنظرات عينيه. صمت لدقيقة، سألته عن سبب اللقاء، فابتسم وقال بصوت عميق هز مشاعري: أريد أن أشكرك. فقلت له: لا شكر على واجب.
سألني عن نفسي، وعن وضعي الإجتماعي. شعرت بأسئلته وكأنّها تحيلني إلى طفل صغيرة أمام معلمه. أخبرته بحملي الذي لم أعلم به إلا بعد طلاقي من زوجي. وأخبرته بأني أعيش وحيدة منذ وفاة أُمّي وزواج أبي. صمت، ثمّ تشجعت وسألته عن حاله. أخبرني بأنّه متزوج، ولكنّه لا يستطيع إنجاب الأطفال، وأن زوجته تحبه كثيراً، وترفض الإنفصال عنه، وقال إنّه يبادلها المشاعر ذاتها. شعرت بأنّ الدنيا كلّها تهدَّمت أمامي، وأن أحلامي طارت مع الرياح. جلست بصمت والعواصف تهيج في كياني، فمَنْ يريد امرأة مطلقة في مثل حالتي؟
طلب منّي أن أمشي معه، فمشيت، مشينا كثيراً. كان يسمعني ويتحمّلني ويستوعب كل تقلباتي ومزاجي وإكتئابي، سمع كل أخباري، خاصة ما يتعلّق منها بحالتي بعدما سمعت بوفاة طليقي، عندما شعرت بأنّ الدنيا كلّها رمَت حملها على عاتقي. وجوده معي، كان يخفف عني كل همومي ومعاناتي ووحدتي. كان يذهب معي لزيارة الطبيب، للإطمئنان إلى حالتي، وكان لا يعود إلى بيته، إلا بعدما يشعر بأني في أحسن حالاتي.
مشيت معه ذات يوم، طلب مني الجلوس، واقترب مني حتى شعرت بالدفء من حرارة أنفاسه. فنظر إليَّ بعمق، هامساً في أذني: "أحبك حبيبتي لا بل أنا مجنون حباً بك". شعرت بالدَّوار عندما سمعته. بدات أنفاسي تتلاحق، وكأنّها ستخرج من جسدي، فوضع يده على يدي وضمها إليه، وداعب بقبلاته الناعمة شعري، وقال لي وهو يضع يده على بطني: "أريد أن أكون أباً ابنك. أريد أن يُربَّ معي. أن أكفله، وأعوضه عن أبيه.. هل تتزوجينني حبيبتي؟".
كم شعرت بالسعادة وأنا أسمع كلامه، حتى ذابت كل أحزاني وآلامي. أحببته بكل جوارحي. وكنت لا أرى إلا وجهه ولا أسمع إلا صوته.
آه كم بكيت عندما مرض، وقتها، لم أستطع أن أكون بالقرب منه. ذهبت إلى المستشفى لأراه، فوجدت زوجته ترعاه وأهله حوله. شعرت بأني أنزع منها سعادتها بأنانية، فكان أن قررت الرحيل بعيداً. أن أنزعه من جسدي وروحي. لكن، بعد أن عدت وسمعت صوته إثر شفائه، تراجعت عن قراري. آه ما أجمل صوته وهمسات حبه ودفء مشاعره. مازال صوته يرن في أذني. حلمت به وهو عائد ليراقصني، ويداعبني، ويضحكني من أعماق قلبي وفؤادي. قرر أن يترك زوجته حتى تستطيع أن تتزوج وتكون أُمّاً كما تريد. أمّا أنا، فتزوجته بعدما أنجبت طفلي، حمل الطفل بين بيديه، وسمّاه باسمه وكبر بين يديه، وأصبح أباً لطفلي بعدما فقد أباه، وأصبح له ابن طالما حلم به.
نام طفلي وأنا بعد لم أنته من إكمال قصة أبيه، سمعت صوتاً خافتاً يناديني، وجدت حبيبي واقفاً والإبتسامة تعلو شفتيه، قمت لأرتمي بين أحضانه وأقبّله وأملأ روحي من عبير أنفاسه، بكيت بحرقه وأنا بين ذراعيه. حملني بعدما قبّل طفله، جلست معه لأسمع أخباره وأشواقه إليّ وإلى ابنه، وضعت رأسي على صدره جهة القلب، وأغمضت عيني، وفي تلك اللحظة شعرت كم أحبه وكم هو يحبني.