قصة قصيرة .. ملاك رحمة لي وحدي


كيف لم أنتبه إليها في أسبوعي الأول في المستشفى، على الرغم من أنها كانت أمام ناظري وقرب سريري، في صحوتي وغيابي؟ لا شك في أنها الآلام التي تجعل المرء يغفل عن أجمل الهدايا، فقد دخلتُ المستشفى بعد حادث سيارة، مصاباً بكسور في الساقين وفي أضلاع عدّة، وقد صار وجهي خريطة شعثاء من الجروح، ومال أنفي إلى اليسار. كيف كان لي، وأنا أخرج من صالة العمليات، ملاحَقاً بالمورفين، أن أرى وجه ملاك الرحمة الذي اسمه "هنادي" يميل إليَّ لكي ينظِّف غُرَز الخيوط في جبيني، ويتأكد من الضماد على أنفي؟
كانت هناك عمليتان جراحيتان في الساقين، ولفائف حول الضلوع تخنق الأنفاس، ومهدئات تجعل من الحصان سلحفاة، ومع هذا، في أسبوعي الثاني في المستشفى، فتحت عينيَّ وتطلّعت في وجه هنادي ونطقت من فم معطوب الأسنان: "يا سبحان الله". وابتسم الملاك وردّ: "حمداً لله على السلامة"، ولم أكن أرجو سلاماً أكثر من ذلك.. كأنَّ المصائب تستحيل في لحظة مباركة إلى فوائد، وكأنّ آلام الجسد تتوارى خلف انخطافات الروح.
ولأنني كنت لصيق الفراش، غير قادر على الوقوف ولا الحركة، فقد كانت هنادي مكلّفة بإطعامي بشفّاطة خاصة، كما كانت مسؤولة عن نظافتي، تغسل أطرافي وأنحاء جذعي وأنا في السرير الطبي، مربوطاً بأنواع من الأنابيب والأمصال المغذية وأجهزة قياس الضغط ودقات القلب. وقد دق قلبي لها منذ أول آهة، وارتجفت أركاني تحت يديها الحانيتين، ويه تمسح بإسفنجة دافئة أعضائي الجريحة والسليمة، على حد سواء.
كيف لا أنجذب إليها وأنا لم أقترب، من قبل، من امرأة كل هذا الاقتراب؟ كيف لا أرتجف تحت أول يد نسائية تمتد إلى جسدي؟ لم تكن هنادي ملاك رحمة فحسب، بل بلسم جميل وشعاع يُشرق على أيامي وأنا في أحلك فترة منها، مكسراً، موجوعاً، قعيداً، مشوش الذهن، لا حول لي ولا قوة.. غير أني سعيد ولا أريد أن تفارقني هذه المحنة. في الأسبوع الثالث، قلت لها وهي ترفع، بحذر، الخيوط من جبهتي، مستخدمة مقصاً رفيعاً وملقطاً ناعماً: "عل تتزوجينني؟". ولا أدري لماذا لم تفاجأ، ولم تبتسم، ولم تهتز، ولا نظرت في عينيَّ، بل واصلت عملها بدقة وحذر، وكأنها تتولى تشريح حشرة في مختبر للأحياء الطبيعية. هل أدركت هذه الممرضة أنني أحبها، ولن أتخلى عنها بعد أن أتعافى وأترك السرير؟
* كلهم يعشقونني وهم مَرضَى
...وهذا مُعجَب آخر يطلبني للزواج، وهو على سرير المرض. كأنّ الرجال يفقدون قواهم العقلية بمجرد أن يخضعوا لعملية جراحية أو أن تتهدد عافيتهم لفترة وجيزة. ماذا يجدون فيَّ؟ ولماذا لا يتقدَّم لي رجل مُعافَى وفي كامل قواه الجسدية، من أولئك الذين أراهم في العمل أو خارج المستشفى؟ ولماذا يسحب المريض عرضه وينسى هيامه بعد وقت قصير من شفائه وعودته إلى بيته.. وربما إلى أسرته؟
أغلبهم متزوجون. وهؤلاء أفهمهم وألمس مَواطِن الملل في حياتهم الزوجية. بل إنَّ دخول المستشفى، لعدد منهم، هو فرصة للهروب من الروتين الزوجي، حتى لون كان هروباً يحمل روائح "السبيرتو" و"الميركيركروم". إنهم يبحثون، دائماً عن الجانب السعيد من القصة، فإذا كانت المرارة قد عانت الحصوات، أو إذا كانت شرايين القلب قد انسدّت من كثرة التدخين، فإنّ الرقود بين أيدي الممرضات، على سرير نظيف وفي غرفة جيدة التهوية، في إجازة مدفوعة، وأمام شاشة تلفزيونية معلقة في الجدار، هو الجانب التعويضي لحالة المرض.
ينسى المتزوجون منهم أن لهم في البيت امرأة أو أنّ لهم أطفالاً. أما غير المتزوجين، فإنّ حالتهم أصعب، لأن كل واحد منهم ينجذب إليَّ، أو إلى إحدى زميلاتي، لمجرد أن يشم رائحة امرأة تقترب منه وتقيس نبضه وتجسّ حرارته. وبسحر ساحر، أتحول إلى مركز الكون، والملاك الجذاب الذي يدقون له الجرس، ليل نهار، لكي يُهرع إلى غرفهم ويلبِّي احتياجاتهم. وطبعاً، ما أكثر الأجراس التي تستدعيني من دون سبب، أو لحجج واهية، وكأن المطلوب هو حضوري ووجودي الأنثوي قرب السرير.
كنت، في البداية، أتضايق من "مخاطر المهنة". لكنني اعتدت عليها وصرت أركز على الجانب الإنساني منها. فالمريض، كما علمونا في معهد التمريض، هو شخص ضعيف مسلوب القوى، يخاف المرض والعطب، ويخشى الموت، ويريد أن يتشبّت بالحياة. لذلك فإنّ الجانب النفسي في العلاج لا يقل فاعلية عن العقاقير والمقويات وباقي العمليات التي تُرمِّم الجسم ولا تملك ترميم الروح.
اعتدت، أيضاً، ألا أتجاوب مع الغزل وعروض الزواج، وأن أرد بحزم أشكال التحرشات، وأعرف أن المريض، مثل الطفل، ليس في حالة تسمح له بالتقدير الصائب للأمور. وغداً، عندما يودعونني، فإنَّ عبارات الشكر وباقات الأزهار وعلب الحلوى، هي كل ما سيتبقَّى لي من ذكريات.